رغم ما تمثله باكستان من أهمية جيوسياسية ووزن نووي مؤثر في جنوب آسيا، فإن العلاقات الباكستانية–الأمريكية ظلت لعقود محكومة بمعادلة الضرورات أكثر من كونها شراكة استراتيجية مستقرة.
وفي هذا السياق، جاءت دعوة قائد الجيش الباكستاني، الجنرال عاصم منير، إلى واشنطن ولقاؤه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتبدو في ظاهرها وكأنها نقطة تحوّل في مسار العلاقات الثنائية، غير أن واقع المشهد أعقد من أن يُختزل في زيارة رسمية أو بيانات مجاملة.
ومنذ الحرب الباردة، اتسمت العلاقات الأمريكية–الباكستانية بالتقلب والحسابات البراغماتية، إذ قامت على اعتبارات ظرفية لا على شراكة استراتيجية مستقرة.
أدّت باكستان دور الحليف أو الخصم وفق تبدلات المشهد الإقليمي، خاصة في أفغانستان. وبرز هذا النمط بوضوح في عهد دونالد ترامب، الذي رغم خطابه المتشدد، أدرك استحالة فك ارتباط المصالح الأمريكية عن تعقيدات الساحة الباكستانية.
وفي مستهل ولايته الأولى، جمّد ترامب المساعدات العسكرية لإسلام آباد وهاجمها علنًا بتهمة إيواء ودعم الجماعات المسلحة في أفغانستان. ومع ذلك، لم تتمكن واشنطن من الاستغناء عن القنوات الاستخباراتية والعسكرية التي توفرها باكستان.
ووفق ما كشفته وثائق وزارة الخارجية الأمريكية (Foreign Policy, 2019)، أوصت الخارجية آنذاك البيت الأبيض بالإبقاء على مستوى محدد من التنسيق الأمني مع الجيش الباكستاني، تحسّبًا لأي تدهور محتمل في أفغانستان أو تصاعد التوتر مع إيران.
لم تقم علاقات ترامب مع المؤسسة العسكرية الباكستانية على ثقة متبادلة، بل على اعتراف عملي بوزن باكستان كدولة حدودية مع أفغانستان وإيران، وبما تمتلكه من نفوذ على الفصائل الجهادية العابرة للحدود.
ولعل أبرز تجليات هذا الإدراك، كان لقاء ترامب مع رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في يوليو/تموز 2019، حيث اتُّفق على إطلاق حوار مشترك حول أمن أفغانستان، وسط اتهامات أمريكية صريحة لباكستان بدعم طالبان. وقد أشارت صحيفة The Guardian في تحليل بتاريخ 23 يوليو 2019 إلى أن اللقاء لم يُفضِ إلى تسويات بعيدة المدى، بقدر ما هدف إلى تأمين المصالح الأمريكية في كابول، تمهيدًا لانسحاب عسكري محتمل.
ولم تتبدل هذه المعادلة كثيرًا مع تعاقب الإدارات. فالزيارة الأخيرة التي أجراها قائد الجيش الباكستاني الحالي، الجنرال عاصم منير، إلى واشنطن في يونيو/حزيران 2025، أعادت إنتاج النمط ذاته: تبادل ضرورات ظرفية لا تحالفات مستدامة.
ورغم وصف بعض التحليلات لهذه الزيارة بأنها اختراق في مسار العلاقات الثنائية، إلا أن القراءة الموضوعية للمصالح المتداخلة تكشف خلاف ذلك. فالولايات المتحدة، في ظل تصاعد الأزمة الإيرانية–الإسرائيلية واحتمال اتساعها، وجدت نفسها معنية بتأمين موقف الحياد من جانب باكستان.
وكشفت معلومات نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في 14 يونيو 2025 أن واشنطن طلبت من الجنرال عاصم منير ضمان استقرار الأوضاع الداخلية في باكستان في ظل اندلاع حرب إيرانية-إسرائيلية. في المقابل، عرضت الولايات المتحدة حزمة تسهيلات اقتصادية محدودة، مع استمرار التعاون في مكافحة الإرهاب وضبط الحدود مع أفغانستان.
وفي الشأن الأفغاني، لم تختلف حسابات واشنطن كثيرا، فعلى الرغم من التوترات المتزايدة بين طالبان وإسلام آباد، ما تزال الولايات المتحدة تعتبر باكستان إحدى البوابات الضرورية لضمان الحد الأدنى من الاستقرار في أفغانستان. ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدور الصيني؛ إذ كشفت وكالة رويترز (30 مايو/أيار 2025) عن محاولات بكين ترميم العلاقة المتدهورة بين كابول وإسلام آباد عبر لقاء ثلاثي في بكين، هدفه بالأساس حماية استثماراتها في مشروع الحزام والطريق، لا سيما في قطاعات التعدين والمعادن النادرة.
في المحصلة، لا يؤسس المشهد الراهن لتحالف جديد، بل يعيد إنتاج تحالف الضرورة الذي تشكّل خلال الحرب السوفييتية في أفغانستان، وتعزز في الحرب على الإرهاب، ثم أعيد ضبطه في زمن ترامب، ويتجدد اليوم بفعل أزمات إيران–إسرائيل وصراع الصين–طالبان.
ومع تراجع النفوذ الباكستاني في أفغانستان، تحاول إسلام آباد استثمار علاقتها بواشنطن لضبط توازناتها. في المقابل، تدرك الولايات المتحدة أن ما يجري مع باكستان هو إدارة أزمة مؤقتة، لا شراكة استراتيجية ثابتة، وأن كلفة هذه التفاهمات ستظل رهينة بحجم الأزمات القائمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة