مبادرة نوعية ومراكز أمومة حديثة ورعاية مستدامة
في الوقت الذي تتغير فيه أولويات المساعدات الدولية وتتأرجح بفعل السياسات المتقلبة، تُقدِّم الإمارات نموذجًا مغايرًا، لا يخضع لموجات الطوارئ العابرة، بل يرسخ رؤية طويلة المدى في دعم المجتمعات.
بينما تكتفي بعض الدول بإرسال شحنات غذائية أو معونات مؤقتة، تبني الإمارات مستشفيات، وتُدرّب كوادر، وتُطلق مبادرات تُغيّر مستقبل أسر بأكملها. لا تنتظر الإمارات اندلاع الكارثة لتتحرك، بل تستبقها بمشاريع جذرية تُحوّل مسار الحياة.
من أفغانستان إلى اليمن، ومن أفريقيا إلى جنوب آسيا، لا تأتي المساعدة الإماراتية كاستجابة لأزمة، بل كفعل تنموي واعٍ، يرى في الاستقرار الصحي والاقتصادي بوابة لبناء مجتمعات أقوى. وفي قلب هذه الرؤية، ولدت مبادرة نوعية جديدة: إنشاء عشر مراكز متخصصة للأمومة والطفولة في سبع من أكثر الولايات الأفغانية تهميشًا واحتياجًا.
وبينما لا تزال صرخات الولادة في القرى الأفغانية تُقابل بالصمت والموت، تُطلق الإمارات مشروعًا إنسانيًا شاملًا، يستهدف الأمهات والرضّع في واحدة من أكثر بقاع الأرض هشاشة. في مبادرة ميدانية ذات طابع بنيوي، ضمن جهود إماراتية حثيثة لتعزيز فرص النجاة والرعاية الأولية للنساء والأطفال.
وتأتي هذه المبادرة بعد تقارير دولية مقلقة تفيد بأن امرأة واحدة تموت كل ساعتين في أفغانستان بسبب مضاعفات الحمل والولادة، وأن حوالي نصف الولادات تتم دون إشراف طبي مؤهل، ما يجعل الولادة في كثير من المناطق أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
المساعدات لا تتوقف عند الطوارئ… بل تبدأ منها
في مفترق طرق عالمي تعيد فيه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية رسم خريطة المعونات، عبر تفضيل الدعم الطارئ على الالتزام المستدام، تطرح الإمارات منهجًا مختلفًا. ففي حين عُلّقت المساعدات الحيوية في دول مثل أفغانستان واليمن، أعادت الإمارات تعريف المساعدة، لا كمنحة عابرة، بل كاستثمار طويل الأمد في كرامة الإنسان وبنيته الأساسية.
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى وفاة 260,000 أم خلال عام 2023، 92% منهن في بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. ما يقرب من نصف ولادات أفغانستان تجري دون إشراف صحي، ومع غياب الرعاية الطارئة، يتحول نزيف الولادة أو المخاض المتعسر إلى مأساة مألوفة.
في ظل هذا الواقع، لم تكتفِ الإمارات بإرسال معدات طبية، بل أنشأت شبكة من المراكز الصحية المصممة لتكون نقاط تحول مجتمعي دائم، لا محطات مؤقتة. مراكز حديثة في ننكرهار، بلخ، هرات، غزني، باكتيكا، باكتيا، قندهار، وهلمند، تقدم خدمات كاملة للأمومة والطفولة، من الفحوصات الدورية إلى الرعاية الطارئة والتطعيمات المجانية والتثقيف الصحي.
أول ولادة آمنة بفضل مركز إماراتي
في مدينة جلال آباد بولاية ننكرهار، وُلدت فاطمة، الطفلة السابعة لأمها شازيا محمدي، لكنها الأولى التي ترى النور في مركز ولادة مجهّز، وتحت إشراف طبي مباشر. يقول والدها رمضان محمد: “رزقنا الله بهذا المركز بعد معاناة طويلة مع الولادات المنزلية، لم نكن نقدر على تكاليف النقل للمستشفيات، والآن لدينا عيادة بالقرب من منزلنا”.
ليست حالة فاطمة استثناءً، بل بداية لسلسلة جديدة من الولادات الآمنة لأكثر من 115,000 امرأة يُتوقع أن يستفدن من هذه المراكز مباشرة، وأكثر من 727,000 شخص بشكل غير مباشر. وتشير التقارير إلى أن المراكز تخدم أكثر من 20 شخصًا يوميًا، بين استشارات وتطعيمات ومتابعة حالات حمل وولادة.
بناء منظومة من الصفر
في هذه المراكز، لا يعتمد الأمر على البناء فحسب، بل على شبكة متكاملة: طاقم طبي محلي يبلغ عدده 100 موظف، تجهيزات بتقنيات حديثة، دعم بالطاقة الشمسية لضمان استمرارية الخدمة، وسلسلة إمداد منتظمة للأدوية واللقاحات.
الدكتور إكرام الله، الطبيب المشرف في أحد المراكز، يقول: “في السابق، كانت النساء يلدن في منازلهن وسط ظروف غير صحية، اليوم لدينا مراكز آمنة، حاضنات للأطفال، وقابلات مدربات على التعامل مع مضاعفات الولادة”.
الطفلة عائشة قمري، واحدة من الحالات التي تتلقى الفحوصات والتطعيمات بانتظام. تقول والدتها: “كنا نسافر لساعات للوصول إلى مستشفى المدينة، والآن نحصل على الرعاية مجانًا، وبالقرب من منزلنا”.
استثمارٌ للمجتمع .. لا المريض فقط
الاستفادة لا تقتصر على صحة الأمهات والأطفال. فهذه المراكز أصبحت نقاط ارتكاز اقتصادية واجتماعية، خلقت وظائف جديدة، وأعادت تدوير التجارة المحلية في مجالات التجزئة، والنقل، والمواد الغذائية. يقول مولوي أمين شريف، مدير الصحة في ولاية ننكرهار: “كنا في أمسّ الحاجة إلى هذه المراكز. الفقراء اليوم يحصلون على خدمات كانت بعيدة المنال، من لقاح السل إلى الدعم الغذائي”.
ويمثل هذا النهج مثالًا حيًّا لما يمكن أن تكون عليه المساعدات عندما تُصمم بعقلانية وشراكة محلية. فهو يدمج التدريب الطبي، وتعزيز البنية التحتية، وبناء الثقة المجتمعية، في منظومة لا تتأثر بانقضاء الأزمات أو تبدل السياسات.
بداية لمستقبل جديد
ليست فاطمة مجرد مولودة جديدة، بل رمز لفكرة أكبر: أن الاستثمار في الرعاية الصحية للأم والطفل هو نقطة البداية لبناء مجتمع أكثر صلابة. في مناطق تتفكك فيها الدولة، وتنهار فيها الخدمات، يكون بناء مركز ولادة آمناً بمثابة إعادة إعمار للثقة بين الناس والحياة.
تقول التقارير إن ما يقرب من 40% من وفيات الأطفال دون الخامسة يمكن تفاديها إذا وُجدت قابلات مدربات وتقنيات بسيطة. وهو ما تحققه الإمارات في هذه المراكز، مستلهمة من تجارب عالمية مثل تجربة سريلانكا، التي خفّضت وفيات الأمهات من أكثر من 500 لكل 100,000 ولادة حية إلى 60 فقط، عبر شبكة عيادات ريفية بدأت في الأربعينيات.
هذه ليست صدفة، بل درس تاريخي يؤكد أن المساعدات الأكثر ذكاءً تبدأ من حيث تنتهي وعود الطوارئ. إنها تزرع بنية، وتُدرّب قابلات، وتُحصّن سلاسل التوريد، وتُعيد تعريف المعونة باعتبارها فعل شراكة، لا هبة.
وفي عالم متغير، لا يكفي أن ننقذ أرواحًا، بل علينا أن نحمي مستقبلها. والإمارات، بمقاربتها الذكية والواعية، تفعل ذلك بالضبط.
aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز