اتفاق سلام «تاريخي» بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، برعاية أمريكية مباشرة في لحظة حاسمة من التوازنات الجيوسياسية المعقدة بقلب أفريقيا.
الاتفاق تباينت قراءات محللين وخبراء فرنسيين تحدّثت إليهم «العين الإخبارية» بشأنه، فمنهم من اعتبره اختراقًا سياسيًا غير مسبوق في ظل فشل المنظمات الإقليمية والدولية، ومن رأى فيه تحرّكًا براغماتيًا تقوده واشنطن لإعادة ضبط النفوذ في منطقة البحيرات الكبرى، على وقع صراع المعادن وسباق التحالفات.
كما أنه يطرح تساؤلات جدية حول مدى قدرة الاتفاق على كبح جماح الإرهاب، ومدى مصداقية الرئيس ترامب في الترويج لنفسه كرجل سلام عالمي، وهل هو مجرد تسوية مؤقتة تُخفي تنازع المصالح الإقليمية والدولية في منطقة تعجّ بالثروات المعدنية الحيوية؟
فالاتفاق في ظاهره يدعو إلى احترام السيادة ووقف دعم الجماعات المسلحة، لكنه في عمقه يرتبط بتحولات استراتيجية دولية كبرى، وبتنافس عالمي على الكوبالت والكولتان والهيمنة على ممرات الطاقة والهجرة غير النظامية.
«إنجاز» ترامب الشخصي
وجرى توقيع الاتفاق، الذي أشاد به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتباره «إنجازًا شخصيًا»، يوم الجمعة، في واشنطن، على يد وزيري خارجية البلدين.
وينص الاتفاق على «احترام السيادة الترابية» في شرق الكونغو، عقب هجوم شنته حركة التمرد (إم 23) التي تتهم الكونغو رواندا بدعمها.
ولم يُخفِ ترامب فخره بالتحرك، وقال في منشور على حسابه الرسمي إن هذا «اتفاق رائع يستحق نوبل للسلام»، على غرار ما حدث – وفق قوله – في اتفاقات سابقة بين الهند وباكستان، وصربيا وكوسوفو، وأيضًا في الشرق الأوسط.
لكن خفايا الواقع في شرق الكونغو، بتاريخه المليء بالإخفاقات، تدعو إلى الحذر، بحسب صحيفة «لوموند» الفرنسية.
وأشارت الصحيفة إلى أن «المبادرة الأمريكية نجحت أخيرًا في تحقيق شيء ملموس، بعدما تخلّت جهات مثل الاتحاد الأفريقي وصنّاع السلام الإقليميين.
وهناك احتمال بعقد اجتماع في يوليو/تموز بواشنطن يجمع بين الرئيس الرواندي بول كاغامي والرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي».
ويهدف الاتفاق إلى وقف النزاع في شرق الكونغو، وهي منطقة غنية بالكوبالت والكولتان، ويشترط إنهاء دعم رواندا لجماعة (فلول الإبادة الجماعية FDLR)، مقابل تراجع التدابير الأمنية الرواندية، مع انسحاب عسكري خلال ثلاثة أشهر.
لكن التحدي الأبرز يكمن في ترجمة النصوص إلى واقع على الأرض، لا سيما وأن الاتفاق تضمّن بندًا يتيح لواشنطن فرض عقوبات محتملة في حال عدم الالتزام.
اتفاق «هش»
بدوره، قال الدكتور كلود بوشار، الباحث في الشؤون الأفريقية بمركز الدراسات الاستراتيجية في باريس، لـ«العين الإخبارية»: «الاتفاق خطوة مهمة، لكنه هش».
وأوضح: «من دون مراقبة دولية ومحاسبة واضحة، فإن الانفراج محفوف بالمخاطر. فقد شهد شرق الكونغو مرارًا اتفاقات انهارت بشكل مأساوي، وضعف الالتزام المحلي هو التحدي الدائم».
وأضاف: «ترامب يسعى لتعزيز صورته كوسيط عالمي، لكن الأهم هو تنفيذ البنود، وليس التصريحات. الولايات المتحدة قد تلوّح بالعقوبات، لكن مدى استعدادها لتطبيقها ما زال سؤالًا مطروحًا».
من جهتها، قالت إميلي لاروش، خبيرة الأمن الإقليمي في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية باريس-بروكسل، لـ«العين الإخبارية»: «الاتفاق يعكس تحولًا نحو البراغماتية في السياسة الغربية. لم يعد العالم الأوروبي مهيمنًا، وأصبحت مناطق أفريقية مثل الكونغو تفرض توازنًا جديد».
وأضافت: «الاتفاق جزئي؛ إذ يوقف أحد عناصر النزاع (إم 23) و(فلول الإبادة الجماعية)، لكنه لا يمس جذور المشكلة، مثل الفساد والتهميش والمنافسة الدولية على الثروات».
وأوضحت: «لعبة ترامب هنا مزدوجة: سلام وتحكم في معادن حيوية. لكن الحل الدائم يكمن في إصلاح مؤسسات الدولة في الكونغو، وليس بوعود صحفية أو انفعالات دبلوماسية».
واعتبرت لاروش أن الاتفاق قد يتيح خفض نشاط جماعات مثل (إم 23) و(فلول الإبادة الجماعية)، لكنه لا يضمن إنهاء العنف الذي تغذّيه ميليشيات مرتبطة بالفقر والاستثمارات غير المسؤولة، خصوصًا في قطاع المناجم.
مصير ترامب كـ«رجل سلام»؟
وأشارت لاروش إلى أن ترامب يسعى لضم هذا الاتفاق إلى سجلّه الدولي لتعزيز صورته، لكن من دون تغليب البعد الاستراتيجي على الاعتبارات الإنسانية والسياسية، فلن يثبت مصداقيته كوسيط موثوق.
ووصفت الاتفاق بأنه «بداية حذرة وانتقائية»، مشددة على أن نجاحه يعتمد على التزام الأطراف الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة، بضمان التنفيذ والمحاسبة.
وأضافت: «واشنطن تجاوزت فشل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي عبر ضغط دبلوماسي مكثف، خاصة من وزارة الخارجية التي يقودها ماركو روبيو، إلى جانب أدوار لمجموعات ضغط من خلف الكواليس. كما أدت قطر دورًا وسيطًا في التمهيد للاتفاق بين الكونغو وإم 23.
هل يجب الاحتفال بالاتفاق فعلاً؟
في المقابل، حذّرت لاروش من أن «البعد الحقوقي ضعيف»، مشيرة إلى تقارير لمنظمات مثل (أطباء من أجل حقوق الإنسان) أكدت (الغياب شبه الكامل للمساءلة عن الجرائم ضد المدنيين)».
كما لفتت إلى أن «الجوانب الاقتصادية قد تفتح الباب أمام صفقات مستقبلية تمنح واشنطن امتيازات تعدينية، وربما اتفاقات فنية بين الكونغو ورواندا تصب في مصلحة الاستثمارات الغربية».
جذور النزاع.. وسبب العنف
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، يمثّل شرق الكونغو مركز صراعات إقليمية متشابكة، حيث تدخلت رواندا لحماية أمنها من ملاحقة عناصر (فلول الإبادة الجماعية)، ودعمت جماعات مثل إم 23، التي أعادت إحياء نشاطها بين 2021 و2024، وسيطرت خلالها على مدن كبرى أبرزها غوما.
وتدور كل هذه التحركات في منطقة تُعد من أغنى مناطق العالم بالمعادن النادرة، مثل الكوبالت والكولتان، والتي جعلت الأرض نفسها ساحةً لصراع نفوذ دولي متعدد الأبعاد.
aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز