“عليك أن تنسى كرة القدم”.. هكذا قال الطبيب لسانتي كازورلا، بعدما وصلت حالته الصحية إلى حد الخطر على حياته، لا مستقبله الرياضي فقط.
كان ذلك قبل 8 سنوات، حينما كانت قدماه تحملانه بالكاد إلى غرفة العلاج، بينما جسده يحمل عشرات الندوب من العمليات المتتالية، وقلبه لا يحمل إلا الأمل.
اليوم، يعود كازورلا، ابن الـ40 عامًا، بوجهٍ يضيء بالحكمة والعزم، ليقود ريال أوفييدو، نادي طفولته، إلى مصاف الكبار، بعد غياب حوالي ربع قرن عن الليجا الإسبانية.
لكن صعود أوفييدو إلى دوري الأضواء لم يكن مجرد انتصار رياضي، بل كان انتصارًا للروح، للوفاء، ولإرادة لا تُقهر.
البداية من الحلم.. والنهاية إليه
وُلد كازورلا في مدينة أوفييدو، وتدرّج في أكاديمية النادي المحلي.
هناك، كانت أحلامه الأولى تتشكّل: اللعب في الليجا، حمل قميص المنتخب، ورؤية اسمه يهتف به الجمهور.
لكن تلك الأحلام لم تكتمل في طفولته، إذ اضطر النادي لبيع أحد أبرز مواهبه عام 2003 بسبب أزماته المالية.
انطلق الشاب الموهوب بعدها نحو فياريال، ثم انتقل إلى مالاجا، وبلغ القمة مع آرسنال في إنجلترا، حيث صار أحد رموز اللعب الجميل، بلمساته السحرية وقدرته النادرة على التسديد والتمرير بكلتا قدميه. تألق، فاز، صُنِّف بين الكبار، لكن جسده كان يُجهّز له مفاجأة صادمة.
getty
من مجد لندن إلى سرير العمليات
في عام 2016، بدأت معاناة كازورلا مع إصابة في وتر أكيلس، وما بدا إصابة بسيطة، تحوّل إلى كابوس طبي.
أجبرته العدوى المتكررة على الخضوع لـ8 عمليات جراحية، وخسر خلالها 8 سنتيمترات من العظم، وكاد الأطباء أن يبتروا قدمه اليمنى.
بل وصل الأمر بأحد الأطباء إلى أن يقول له: “يكفي أن تتمكن من المشي في الحديقة مع ابنك، لا تطلب أكثر من ذلك”.
كانت تلك الفترة نقطة الانهيار، ظلام تام في نهاية نفق طويل، نُسيت فيه الأضواء، وتلاشى فيه التصفيق، لكنه لم يستسلم.
المعجزة تبدأ.. والعودة من المستحيل
ضد كل التوقعات، وبعد أكثر من عامين من الغياب، عاد كازورلا إلى الملاعب مع فياريال في موسم 2018-2019. لم يشارك فقط، بل أبدع.
قاد الفريق، وانضم لمنتخب إسبانيا من جديد، وهو في عمر الـ34.
بدا أن النجم الذي كاد أن يُنسى، عاد لينقش اسمه من جديد، لكن قلبه ظل معلقًا في مكان آخر، حيث بدأ كل شيء.. ريال أوفييدو.
getty
العودة إلى الأصل.. بأقل راتب وأكبر أثر
في عام 2023، فاجأ كازورلا الجميع بتوقيعه لناديه الأم ريال أوفييدو، الذي كان يقبع في دوري الدرجة الثانية.
لم يكن عقدًا مغريًا، بل كان بالحد الأدنى من الرواتب (93 ألف يورو سنويًا). بل أكثر من ذلك، تبرع بـ10% من أرباح قمصانه لصالح قطاع الناشئين، فهو لم يأتِ ليربح، بل ليُعيد الحياة لنادٍ صنعه ذات يوم.
كان كازورلا، في عمر الـ38، يتحرك بخفة العشرين، يقود اللاعبين بالكلمة والقدوة، وينثر شغفه في كل تمريرة.
المشهد الخالد
في يونيو / حزيران 2025، دخل أوفييدو ملحق الصعود ضد ميرانديس.
خسر الفريق الذهاب 0-1، لكن في مباراة الإياب، انتفض الفريق وسط أجواء درامية.
سجل كازورلا من ركلة جزاء في الدقيقة 39، ليقود الفريق للانتصار 3-1 بعد التمديد، ويمنح أوفييدو الصعود إلى الليجا بعد 24 عامًا من الغياب.
عانق زملاءه، وانهمرت الدموع من العيون، لكنها لم تكن دموع ندم، بل دموع الوفاء والانتصار على الألم، دموع من يعرف أنه صنع النهاية التي يستحقها.
أكثر من مجرد لاعب
لم يكن كازورلا نجمًا فقط. كان قصة تُروى، درسًا في الإصرار، ورسالة لكل رياضي فقد الأمل.
تحدى الطب، والعمر، والمال، وفضّل أن يعود لنادي قلبه بدلًا من أن يختتم مسيرته في مكان آخر أكثر راحة وربحًا.
قال بعد المباراة: “ربما فزت ببطولات مع المنتخب، وربما لعبت في ملاعب كبيرة، لكن لا شيء يُقارن بهذه اللحظة مع أوفييدو. هذا هو الحلم الحقيقي”.
قصة لا تنسى
قد يُعلّق الحذاء في أي لحظة، لكن كازورلا لن يُنسى، سيبقى ذلك الاسم محفورًا في قلوب عشاق الكرة، ليس فقط لما قدّمه في الملعب، بل لما مثّله خارج الخطوط، الوفاء، التواضع، الصبر، والإيمان بالنفس.
سانتي كازورلا لم يعد مجرد لاعب كرة، بل أصبح أسطورة إنسانية.
Getty Images