
استيقظ العالم فجرَ أمس على صور القاذفة الأمريكية العملاقة B-2 وهي تقصف، في لحظة خاطفة، مواقع المفاعلات النووية الإيرانية في فوردو، وأصفهان، ونطنز. لم يرَ أحدٌ شيئًا سوى تجمّع الدخان والغبار فوق المواقع المدفونة في أعماق الأرض.
لم أكن بحاجة إلى مشاهدة الضربة من بدايتها لأتبيّن الأمر، إذ كانت الرمزية أشد توهجًا من التفجير نفسه. فحين تستيقظ المدن على صوت الانفجارات، لا تكون الضربة مجرد عمل عسكري، بل خطابٌ ناريٌّ موجَّه إلى “ذات لا تُروَّض”، وتذكيرها بأن السماء ليست فقط رحمة، بل وعيد.
ما حدث لم يكن قصفًا تقنيًا متقنًا لأهداف نووية، بل إعلانًا رمزيًّا: إن الطموح إلى امتلاك توازن العنف ليس مجرد حسابات طاقة، بل تجاوزٌ للترتيب القائم، وخطرٌ على السردية التي بنت القوة العالمية نفسها عليها لعقود. فالضربة لم تستهدف المادة بقدر ما استهدفت المخيّلة؛ فالعالم لا يقوم على العدل، بل إن العدل نفسه، في ميزان القوى بين الدول، يحتاج إلى تفسيرٍ آخر في معناه، خارج سياق العدل المعتاد بين البشر. ووحدها الدول الذكية هي التي تواكب وتخلق صيغةً تتعايش بها مع هذا الواقع لمصلحة شعوبها. أما من يرون غير ذلك، فعليهم حجز مواقعهم في صفوف المنتظرين لانتظار (مهدي) طال انتظاره!
لا أحد يقف مع العنف، ولا أحد يتمنى أن يرى الإيرانيين إلا في صورة حضارتهم الباهية الباذخة، الضاربة في عمق التاريخ. كما لا أحد يتمنى الدمار لإيران، ولكن مشكلة إيران تكمن في ثورتها الإسلامية التي نشأت قبل 45 عامًا، كامتداد لثورة “التوابين” التي قامت قبل نحو ألف وخمسمائة عام، وبنفس أهدافها المتمثلة في الثأر لـ”كربلاء”، دون أن تقول لنا مِن مَن الثأر؟ رافضة الاندماج في عالم العولمة وقيم الألفية الثالثة، متقوقعة في عوالم العام “65” من الهجرة!
الآن، وقد حدثت الضربة الأمريكية، لا بد أن هناك ثمة ردا إيرانيا. وقد رأينا بوادره في صواريخ الأمس. لكن الرد لن يكون كما يتوقع الكثيرون، وربما سيكون ردًا بالقدر الذي يكفي لحفظ ماء وجه مشروع يقوم أساسًا على فكرة الثأر، ولو مضى عليه قرون عديدة. ونتمنى أن يكون ذلك كذلك، وإلا فإن البديل هو الفناء الشامل، وهو ما لا نتمناه لأي أحد، وخاصة للشعب الإيراني الكريم.
وهنا، لا يمكننا تجاهل أن المشهد الإقليمي والدولي اليوم يشهد تغيرات متسارعة، تتطلب من كل الأطراف حكمة وروية لتفادي الانزلاق نحو أزمات أشد تعقيدًا. فالتاريخ علمنا أن الثأر الذي لا يُحتكم إلى العقل والحكمة لا يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار والخراب. لذا، فإن الطريق نحو سلام دائم لا يمر إلا عبر التفاهم والتعايش، مع احترام مصالح الجميع، بعيدًا عن نزاعات تؤدي إلى مزيد من الانقسام والتوتر. فسلام المنطقة واستقرارها، مع الحفاظ على كرامة وحقوق شعوبها، يجب أن يكون الهدف الذي يوحد الجميع، وليس عاملًا يفرق أو يصنع أعداءً جددا.
استقرار المنطقة وحفظ أمن الخليج العربي هما الخط الأحمر الذي لا يجوز التنازل عنه، وهما الركيزة الأساسية لأي مستقبل عالمي مستقر ومزدهر.


الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة