في لحظة بدا فيها كل شيء ساكنًا، هبطت القنابل الأمريكية على ثلاثة من أكثر المواقع حساسية في إيران: نطنز، فوردو، وأراك.
ضُربت المنشآت بدقة عالية، وسط تغطية إعلامية ضبابية، وصمت رسمي شديد الانضباط. لم تُسجَّل أي مؤشرات على تسرب إشعاعي، ولم تُطلق صفارات الإنذار البيئي، ولم تعلن الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تحرك عاجل. كل ما جرى بدا وكأنه مناورة فنية، لا عملية عسكرية حقيقية، رغم أن المواقع المستهدفة تقع في قلب البرنامج النووي الإيراني.
السؤال الذي فشل الجميع في الإجابة عنه؛ كيف يُقصف قلب منشأة نووية دون أن ينبض مقياس الإشعاع؟ في التقديرات الفنية، الإجابة بسيطة على الورق: ما ضُرب كان البنية التحتية المحيطة، لا قلب التفاعل. ما قُصف هو أنظمة التبريد، محطات التحكم، خطوط الإمداد، وليس خزانات الوقود أو وحدات التخصيب النشطة. لكن في السياسة، ما يبدو تقنيًا يُصبح دلالة.
الولايات المتحدة، وفق تسريبات من البنتاغون، استخدمت القنابل الخارقة للتحصينات من طراز GBU-57، المُصمّمة لاختراق الصخور المسلحة بعمق، دون تفجير شامل للسطح، فالهدف لم يكن تدمير المشروع بالكامل، بل شلّه مؤقتًا. كأن الضربة لم تكن لـ “إزالة” البرنامج النووي، بل لـ “إعادة ضبطه”، وبين الرسالة الاستراتيجية التي أرادت واشنطن إيصالها، والردع الرمزي الذي مارسته، ضاعت الحقيقة في المسافة.
فإيران لم تخرج عن سلوكها المعتاد، فالبيانات مقتضبة والتصريحات مشروطة والصور غائبة، وكل ما يُعرف عن الأضرار مصدره قنوات غربية أو صور أقمار صناعية، وفي هذه المساحة الرمادية، تجيد طهران إدارة الحدث، كما فعلت في كل مرة سابقة. ليست المرة الأولى التي تُقصف فيها منشأة، ولا المرة الأولى التي تُخفي فيها النتائج.
ما لا يُقال علنًا، تقوله المعلومات المسرّبة، فإيران وبعد حديث ترامب المتكرر عن إمكانية ضرب طهران ربما أخفت وحدات التخصيب النشطة، ونقلت الأجهزة الحرجة إلى مواقع بديلة. فمنشأة نطنز، رغم ضخامتها، لم تعد تحتضن القلب النابض للمشروع. فجبال زاغروس شهدت تحركات إنشائية متسارعة، وأنفاقًا جديدة شُيدت في محيط كاشان، بعيدًا عن عين الأقمار الصناعية. البرنامج الإيراني، كما تشير التقارير، بات موزعًا، متنقلًا، بلا مركز ثابت. كأن الضربة مهما كانت قوية، تصيب أطرافًا لا جذورًا.
والمقلق في هذا كله، أن عدم وقوع كارثة إشعاعية لا يُعدّ فقط نجاحًا تكتيكيًا للضربة، بل يُمكن أن يُقرأ إيرانيًا كنجاح استخباراتي. أن ما لم يُدمّر كان الأهم. وأن ما دُمر كان جزءًا من السردية القديمة التي اختارت طهران أن تتركها مكشوفة عمدًا. تمامًا كما تركت فوردو تُكتشف في 2009 لتغطية ما لم يُكتشف بعد.
في الخلفية، الوكالة الدولية للطاقة الذرية تصدر بيانات باردة، رمادية، خالية من التفاصيل. لا تُحدد موقعًا، ولا تشير إلى أرقام. كأنها شاهدة، لكن من خلف زجاج مظلل. لا أحد يعرف إن كانت منعت من الدخول، أم اختارت ألا ترى.
وفي واشنطن، بدا أن العملية نُفذت بدقة رجل جراح، لكن بروح رجل سياسة. فترامب، في ولايته الثانية، أراد ضربة بلا حرب، وهزّة بلا نزيف، وعنوانًا كبيرًا من دون مستنقع. فورقة الردع لا تزال سلعة رابحة. فالمطلوب كان صورة النسر الأمريكي وهو يحلّق فوق المنشآت الإيرانية، لا دخانًا أسود يتصاعد منها.
لكن ما لم يُضرب بعد، قد يكون هو الأهم، وما لم يُعلن عنه، قد يكون هو الأخطر، وربما، في مكان ما، بعيدًا عن العين، لا تزال أجهزة الطرد المركزي تعمل. بصمت، بثقة، وبانتظار الجولة التالية.