الأصوات التي تدخل القلوب لا تُنسي.. إذ يظل اسم الفنان محمد السبع علامة مضيئة في تاريخ الفن المصري، فلم يكن مجرد ممثل “عادي”، بل كان صاحب رسالة، وصوت لا تخطئه الأذن، وأداء يُلامس الأرواح قبل أن يُبهِر العيون.
من قرية “نوسا الغيط” إلى كبرى خشبات المسرح، ومن أحاديث الطفولة في “قصص الأنبياء” إلى التكريمات الدولية، سطر محمد السبع مسيرة استثنائية جمعت بين الفن والإيمان، بين التمثيل والإلقاء، بين الأداء والإخلاص، بين الصوت الجميل والخشوع في الأداء.
ولد محمد السبع في 29 مارس عام 1923 بقرية “نوسا الغيط” التابعة لمركز أجا بمحافظة الدقهلية، وتزوج من خارج الوسط الفني، وأنجب أربعة أبناء، من بينهم الفنانة المعتزلة صفاء السبع، بالإضافة إلى نهال، وريهام، وأحمد.
الحلم من قلب العزلة
كان والده، العمدة سعيد بك السبع، معروفًا بحبه لأهل قريته وحرصه على مساعدتهم، لم ينعم محمد بوالده كثيرا ليتوفى في سن الخامسة من عمره، وينتقل بعدها للعيش مع شقيقه الأكبر سيد، الذي كان يعمل وكيلًا للنيابة في سمالوط بمحافظة المنيا.
ورغم وجوده بجانب شقيقه الأكبر إلا أنه عاش منعزلا، وبعد مرحلة الإعدادية كان محمد أمام مفترق طرق، إذ كان يرغب في دخول الثانوية العامة، لكن شقيقه رأي أن التعليم الصناعي سيكون الأفضل له.
في الأخير، امتثل محمد لرغبة شقيقة سيد ودخل المدرسة الصناعية، وهناك بدأ طريق الحلم، حين انضم لفريق السينما تيمنا بقدوته الفنان حسين رياض.
هناك شارك محمد في فريق التمثيل المدرسي، ليجد طريقه في الحياة، لكن بعد التخرج تخلى عن حلم التمثيل ليعمل في إحدى شركات الصيانة.
بصوت كوكب الشرق
دفعه القدر مرة أخرى لينضم إلى الفرقة المصرية، ومنها دخل معهد التمثيل العربي بالقاهرة بعد أن سمع إعلانًا عبر الراديو على أحد المقاهي.
تخرّج السبع عام 1947، ضمن أول دفعة ضمّت نخبة من كبار نجوم الفن فيما بعد، مثل: حمدي غيث، فريد شوقي، عبد الرحيم الزرقاني، شكري سرحان، سعيد أبو بكر، نعيمة وصفي، صلاح منصور وعمر الحريري.
موهبة محمد السبع كانت فريدة إذ تتلمذ على يد العملاق زكي طليمات، ليبدأ مشواره الفني في المسرح القومي، ويشارك في أعمال عظيمة مثل مأساة الحلاج، المهزلة الأرضية، شذوذ الأشباح، الموت يأخذ إجازة وقصة مدينتين.
محمد السبع كان أيضًا عاشقًا لصوت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكان يقول دائما: “التمثيل ليس مجرد كلمات أو حركات، بل هو إحساس صادق، تمامًا كإحساس كوكب الشرق حين تغني”.
توالت أعمال السبع ليقدم مسلسلات رائعة في الدراما التلفزيونية مثل الإنسان والمجهول، غريب يا ولدي، ابن الجبل وأبناء ولكن، كما تألق في السينما من خلال أفلام عديدة منها حبيب الروح، شم النسيم، المغامرة، توحة، بائعة الورد، والمغامرة الكبرى.

مسرحجي قدير
قدم السبع أدوارًا رائعة طوال مسيرته، ويعد أبرز أدواره كانت مسرحية “مأساة الحلاج” التي قدمت على خشبة دار الأوبر القديمة، وقدم العديد من الأعمال المسرحية المميزة.
الجمهور أيضا لا ينسى دوره في فيلم المغامرة الكبرى مع فريد شوقي، إذ جسّد دور الشرير باقتدار، فقد كان ممثلًا متكاملًا، أو كما يُقال “مشخصاتي” قدير.
ويقول السبع: “أؤدي أدوار الشر مُرغمًا، لكني أقدّمها بإخلاص، لم أشارك في عمل لم يُعجب الجمهور، ولا أرى أنني أملك أسلوبًا خاصًا في الإلقاء”.
أما في الدراما التلفزيونية، فله دور لا ينسى في مسلسل “الإنسان والمجهول”، الذي قام ببطولته محمود عبد العزيز، إذ جسّد دور تاجر لا يفكر إلا في المكسب والخسارة، وأشاد به النقاد والجماهير على حد سواء.
صوت رخيم
هذا الفنان، الذي ينتمي إلى جيل الكبار، لديه صوت لا ينسى، فعندما نذكر محمد السبع، يتبادر إلى أذهاننا، ذلك الصوته الرخيم الجهوري الذي يدخل القلب مباشرة، الإضافة إلى أدائه الخاشع في الأدوار الدينية، ليتفرّد بتجسيد شخصيات الصحابة والسلف الصالح بصدق وإحساس نادر ليدخل في كل بيت مصر.
شارك في أعمال عن السيرة النبوية، كما قدم أعمالا دينية رائعة مثل “أُمّة القرآن”، برنامج أسماء الله الحسنى، أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد كل أذان، أنوار الأسماء الحسنى.

امتد تأثيره الفني والديني إلى خارج مصر في معظم الدول العربية والإسلامية، ليشارك في بعثات دينية إلى باكستان وإندونيسيا ضمن وفود رسمية، كان على رأسها شيخ الأزهر الشريف آنذاك.
ونال تكريمًا خاصا من دول السعودية وباكستان وإندونيسيا، ليُصبح أول فنان مصري يُكرم هناك، وأهداه الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود نسخة من مصحف المدينة المنورة تقديرًا لعطائه.

قصص الأنبياء
حتى الأطفال ارتبطوا بصوت الفنان الكبير محمد السبع، الذي ترك بصمة خالدة في القلوب قبل العقول.
في كل بيت مصري، ومع كل “رمضان”، هناك لحظة خاصة لكل الأطفال قبل أذان المغرب، حين يُعرض مسلسل الكرتون الشهير “قصص الأنبياء”.
صوت محمد السبع، حين يقرأ القرآن، لم يكن مجرد أداء، بل كان خشوعًا يلامس الجلود، ذلك الصوت الهادئ المطمئن، أصبح جزءًا من ذاكرة الطفولة لأجيال كامل، إذ ربط صوته بين روعة القصص القرآني وقدسية الشهر الكريم.
رحل محمد السبع عن عالمنا في 6 أبريل 2007، بعد صراع مع مرض السرطان، وكان آخر أعماله الفنية هو المسلسل السوداني “أمير الشرق – عثمان”، الذي ودّع به الشاشة، تاركًا خلفه إرثًا لا يُنسى.
ترك لنا محمد السبع تراثًا من الأداء البديع، سواء في أدواره الدرامية أو أعماله الدينية، وصوتًا خاشعا في قصص الأنبياء وبرامج الإيمان والسيرة النبوية.
رحل محمد السبع بجسده، لكنه بقي خالدًا بصوته الرخيم وأداءه الفني الذي لا يختلف عليه الجميع، كان حاضراً في كل بيت، ومازال صوته دليل “العابدين” في شهر رمضان كريم.
