كلما ظهر ذاك الجاهل الذي يحكم القوة العظمى في العصر الحالي، أشعر أن هذا الكوكب البائس يتعمد السخرية منّا.
هالني المشهد الهزلي العبثي لقادة خمس دول أفريقية وهم يجلسون أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كتلاميذ مدرسة ابتدائية بحي فقير في مواجهة مدرس قمعي يدرك بؤس حالهم، وعجزهم عن الشكوى أو التمرد على تصرفاته.
لقد سأل رئيس ليبيريا بكل تبجح مقاطعاً حديث الأخير: “لغتك الإنجليزية رائعة، أين تعلمت التحدث بهذه الطريقة؟”.
ورد الرئيس الليبيري “في بلادي يا سيدي” فواصل ترامب عجرفته وتعاليه وجهله، قائلاً “إنه أمر مثير للاهتمام، هناك أشخاص على هذه الطاولة لا يتحدثون هكذا!”.
ليبيريا تحديداً لها قصة مختلفة عن معظم الدول الأفريقية، لا يعلمها جاهل مثل ترامب، ولا يدرك تفاصيل نشأتها ذات الصلة المباشرة ببلاده كقوة امبريالية استعمارية ذات تاريخ دموي.
ليبريا تعد أقدم جمهورية في أفريقيا، إذ أسست عام 1847، بهدف جعلها مستوطنة للعبيد المحررين في الولايات المتحدة، فبعد جلبهم مقيدين إلى بلاد العم السام، ونضالهم للحصول على حريتهم، عادوا إلى جذورهم لكن بثقافة ودعم من أمريكا نفسها.
تأسيس هذه المستوطنة في البداية، يشبه إلى حد كبير فكرة زرع إسرائيل داخل المنطقة العربية، إذ كان الهدف منها وضع يد للولايات المتحدة داخل بقعة غنية بالقارة السمراء، فأصدرت ليبيريا دستورًا مماثلاُ للدستور الأمريكي، وعلمها يشبه العلم الأمريكي تمامًا لكن بنجمة واحدة، وحكمها في البداية جوزيف روبرتس الرجل المولود في ولاية فرجينيا الأمريكية، حتى أن العاصمة نفسها سميت “مونروفيا” تيمنًا باسم الرئيس الأمريكي آنذاك جيمس مونرو.
ورغم أعدادهم القليلة في البداية، إلا أن العبيد المحررين القادمين من أمريكا تمكنوا من الهيمنة سريعًا، بفضل ما طرأ على جيناتهم من تأثير الاختلاط مع المستعمرين البيض في أمريكا، لدرجة أنهم بدأوا في استعباد السكان الأصليين وتعاملوا معهم على غرار ما كان يعاملهم سادتهم البيض.
كل هذا التاريخ الدموي لا يعرفه جاهل مثل ترامب، ولا يعلم كذلك أن بلاده كانت سببًا في اندلاع حروب أهلية متعاقبة في ليبيريا بعد أن أرست من البداية قواعد لا يمكن أن تؤسس لدولة ذات مستقبل مستقر وآمن، فالرئيس يجب أن يأتي من المؤسسة الدينية، فضلًا عن دعم لوردات الحروب، وتغذية الفتنة وبيع الأسلحة لجميع الأطراف.
ترامب لم يعلم أن الرجل الذي أعجب بلغته الإنجليزية، عانى بشكل أو بآخر من بلاده، وأنه ينحدر من أصول شكلتها الصراعات والدماء، وأن اللغة الأم في ليبيريا هي الإنجليزية.
لقد عامل ترامب رؤساء خمس دول بكل استهانة وتحقير، ولا أجد سببًا في قبولهم ذلك، فمجرد جمعهم سويًا في جلسة واحدة، أمر مهين، وغير مقبول، وظهوره متبرمًا ملولًا لدرجة مقاطعته لكلمة رئيس موريتانيا، قائلًا له ما مفاده بلغتنا العامية “لخص يا عمنا ورانا غيرك!! وقوله لرئيس غينيا، عرف عن نفسك عن بلدك.
يا الله تذكرت حين شاهدت هؤلاء البؤساء حالًا ومالًا ومقامًا، قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي حين رفض دعوة ترامب لزيارة البيت الأبيض، وأدركت كم كان حكيمًا وواعيًا، لأن مصر ورئيسها لا يمكن أن يحلا في هذا الموقف.
نحن نعيش في زمن غريب، تراق فيه الدماء مثل المياه، وتهدر فيه الحقوق، وتقلب الحقائق، ويهان رؤساء دول يمثلون شعوب ذات أصالة وكرامة!
لقد عامل ترامب رؤساء الدول الأفريقية معاملة جدوده للعبيد، فجرح إنسانيتنا وأصابنا بحالة غثيان تجاوزت كثيرًا مرحلة السخرية والاستظراف!
يجب أن يدرك الرئيس أن كرامته من كرامة شعبه، وكان الأجدر برؤساء تلك الدول الرد عليه بأدب دون ضعف، فمهما بلغت فظاظة هذا البرتقالي وعجرفته، هناك حد للتجاوز والاستعلاء، وأصول للضيافة لا يفترض انتهاكها.
هذا المشهد المهين، رسخ لدي قناعة بأن الأخيار ليس لهم نصيب كبير في هذا العالم الآن، ومن يبتلع الإهانة لا يستحق الشفقة أو التعاطف.