تفكيك العقل «الإخوانجي».. كيف سبقت السينما الفرنسية تقارير المخابرات؟

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!



في الأحياء الخلفية لباريس، حيث لا تصِل الكاميرات إلا من زوايا حذرة، لا تتحدث الجدران الضيقة بلهجتها المعتادة، بل تهمس بلغات أخرى، مليئة بأسئلة الانتماء، ومحاطة بهواجس “الخوف الكبير”.

وسط هذا المناخ، لم تكن السينما الفرنسية مجرد متفرج، بل أصبحت صانعة مرآة كاشفة، تتلمّس التشققات داخل المجتمع، وتعيد تدويرها عبر حكايات الشاشة ، ففي السنوات الأخيرة، أخذت شخصية “الإخوانجي” – ذلك الكائن الغامض المتخفي في ملامح الشاب الفرنسي من أصل عربي – حيزًا دراميًا لافتًا، لا بوصفه إرهابيًا فَجًّا فحسب، بل بوصفه حالة ثقافية شبحية.

ظهر عضو الجماعة كخطيبٌ فصيح، مربٍ متدين، إمام صغير، أو حتى صديق الإنترنت الهادئ الذي ينقر رسائل تربية على الإخلاص ثم يتحدث عن “حرب الأفكار”. تتبعت السينما الفرنسية هذه الظاهرة من دون تسميات صريحة دائمًا، لكنها رسمت خريطة دقيقة لطبيعة التغلغل الثقافي والسياسي للفكر الإسلاموي، وعلى رأسه فكر جماعة الإخوان.

فيلم صنع في فرنسا

لم تنتظر السينما الفرنسية قرارات سياسية ولا تصريحات من الإليزيه. بل خمّرت هذه المخاوف في دفاتر السيناريو، وخلقت شخصياتها من واقع مشتعل، يختلط فيه الدين بالهوية، والتديّن بالانتماء، والتهميش بالعنف. وبين المشاهد والحوارات، بات “الإخوانجي” يظهر على الشاشة لا بوصفه خطرًا خارجيًا، بل كصوت داخلي ناعم، ينمو في المساجد والمراكز الثقافية، يقرأ القرآن، ويتحدث عن العدل، لكنه لا ينسى وضع إصبعه على الزناد الرمزي.

فما الذي قدّمته السينما الفرنسية عن جماعة الإخوان؟ وكيف أعادت رسم المفاصل الدرامية في تحليل علاقة فرنسا بالإسلام السياسي؟

فيلم صنع في فرنسا

La Désintégration (2011) — كيف ينتج التطرف؟

في فيلم للمخرج فيليب فوكو، نتابع مسار ثلاثة شبان من أصول مغاربية يعيشون في ضواحي ليل، ينزلقون تدريجيًا إلى دوائر الفكر المتشدد نتيجة شعور عميق بالإقصاء والتهميش. يقودهم في هذا المسار “الأخ علي”، شخصية تمتاز بخطاب عقلاني ظاهري، لكنه مشبع برسائل سياسية إسلامية تُشبه كثيرًا ما تتبناه جماعة الإخوان في أوروبا.

يركز الفيلم على تفكيك العلاقة بين فشل مشاريع الإدماج الفرنسية وتنامي الخطابات المتطرفة، حيث يتحوّل خطاب الهوية إلى وسيلة لعزل الشبان عن المجتمع، عبر مراحل تبدأ بإحياء الانتماء الديني، ثم تقويض شرعية الدولة العلمانية، وصولًا إلى تأطير العالم ضمن ثنائية “نحن” و”هم”.

بطرح اجتماعي حاد، يُظهر الفيلم كيف يُعاد تشكيل وعي هؤلاء الشبان عبر استثمار مشاعر الظلم والخذلان، وهي آلية متكررة في أدبيات الإخوان داخل السياق الأوروبي، حيث يتم تقديم القطيعة لا كتمرد، بل كحلّ للخلاص الفردي والجماعي.

فيلم صنع في فرنسا

Les Hommes Libres (2011) — الجذور الأولى

في فيلم إسماعيل فروخي، الذي يتناول فترة الاحتلال النازي، يبدو مسجد باريس الكبير أكثر من مجرد مكان عبادة، بل ملاذًا إنسانيًا أنقذ يهودًا من بطش النازيين. من خلال شخصية الإمام سي قدور بن غبريط، يرصد الفيلم العلاقة المتشابكة بين الإسلام والسلطة في زمن مضطرب.

ورغم أن التركيز الأساسي إنساني، فإن العمل يلمّح إلى ملامح فكر سياسي بدأ يتشكل في أوساط مسلمي شمال أفريقيا بباريس، بتأثير من حركات الإصلاح الإسلامي، وهي الخلفية التي ستنتقل لاحقًا إلى جماعة الإخوان في صيغتها الأوروبية. تظهر في الفيلم إشارات دقيقة إلى شبكات تضامن ذات طابع أممي، تُعلي من قضايا الأمة وتربط الدين بالوعي السياسي، وهي أفكار سيعاد إنتاجها لاحقًا ضمن خطاب الجماعة.

بمعالجة هادئة وغير مباشرة، يُبرز الفيلم أن الحضور الإسلامي في فرنسا لم يكن مجرد حالة دينية، بل حقلًا مفتوحًا لتكوين مشروع ثقافي-سياسي، سبق مرحلة التنظيمات الإسلامية الحديثة، ومهّد لخطابها.

فيلم صنع في فرنسا

Made in France (2015) — صناعة الرعب المحلي

أمام عدسة نيكولا بوشريه، يندفع صحفي مسلم شاب لاختراق خلية إرهابية تُخطط لتنفيذ هجوم في قلب باريس. العنوان لا يترك مساحة للتأويل: التهديد ليس مستوردًا، بل “صُنع في فرنسا”.

ورغم أن اسم ” جماعة الإخوان ” لا يظهر صراحة، فإن الروح الفكرية للجماعة حاضرة بقوة في البناء الدرامي: خطاب يلامس الاغتراب، شعور بالقهر الاجتماعي، سردية عن الهوية، ثم انخراط تدريجي في مشروع شمولي يُلبس السياسة عباءة الدين.

الفيلم لا يكتفي بتقديم مشاهد العنف، بل يغوص في النفسيات: شباب مسالمون سابقًا، يتحوّلون إلى “مشاريع قنابل” تحت تأثير خطب ناعمة ودروس “تربية” تُبنى في العتمة.

ويبدو واضحًا أن الفيلم يقترب من البنية الحقيقية التي اعتمدتها الجماعة في فرنسا وأوروبا: خطاب مزدوج، وتأطير شبابي يبدأ من الإحباط الاقتصادي، ويُترجم لاحقًا في ولاء لمشروع فكري متكامل.

فيلم صنع في فرنسا

Le Monde est à toi (2018) — قناع من الورع

في هذا الفيلم الكوميدي السوداوي للمخرج رومان غافراس، تنطلق الحكاية من شاب يسعى للخروج من عالم الجريمة، لكنه يجد نفسه متورطًا، بضغط من والدته، في عملية تهريب غامضة. وبين مشاهد العبث والجريمة، تظهر شخصيات ثانوية ترتبط بشكل عابر بتمويل جماعات إسلاموية في المغرب العربي.

ورغم أن العمل لا يتناول السياسة مباشرة، إلا أنه يلمّح، بأسلوب ساخر، إلى تغلغل بعض الجماعات، ومنها جماعة الإخوان، في شبكات غير تقليدية: المال غير المشروع، العمل الخيري، والتهريب، بل وحتى تقاطعاتها مع عالم الجريمة المنظمة.

هذه الشخصيات، رغم هامشيتها، تكشف عالمًا موازٍ يُدار تحت غطاء ديني، حيث تُستخدم الشعارات الإسلامية كأقنعة لأجندات مادية. السخرية هنا ليست عبثية، بل وسيلة لكشف التناقض بين الواجهة الورعة والمصالح الخفية، وهو تناقض طالما أشارت إليه دراسات كثيرة تناولت نشاط الجماعة في أوروبا.

فيلم صنع في فرنسا

Le Jeune Ahmed (2019) — إعادة تشكيل العقل

في الفيلم البلجيكي-الفرنسي من إخراج الأخوين داردين، تتجسد قصة أحمد، فتى مسلم في بلجيكا يتأثر بخطاب ديني متشدد يدفعه لمحاولة قتل معلمته. ورغم غياب الإشارة المباشرة إلى جماعة الإخوان، إلا أن اللغة التي تُلقَّن للطفل — من تأكيد على الطهارة العقائدية، ورفض الاختلاط، إلى التمرّد على النظام العلماني — تحاكي ما يُنشر في بعض المراكز والمساجد المتأثرة بخطاب الجماعة في أوروبا.

الفيلم يرصد كيف تتحوّل البراءة إلى عنف، حين يُقدَّم الدين كمنظومة مغلقة جامدة، تُفرغ الطفولة من أسئلتها وتملؤها بأحكام نهائية. وهو بذلك يفتح سؤالًا حساسًا حول دور الأسر، والمراكز التربوية، في تشكيل وعي الأطفال بخطاب يبدو دينيًا، لكنه في جوهره مسيّس.

يُظهر العمل كيف تنتقل أفكار الجماعة من ساحة العمل الحركي إلى البيت والمدرسة، لتُنتج جيلاً يتبنّى رؤيتها دون أن يعي تعقيداتها.

فيلم صنع في فرنسا

Vous n’aurez pas ma haine (2022) — ما بعد الانفجار

يروي هذا الفيلم، المستند إلى قصة حقيقية، معاناة رجل فقد زوجته في هجوم باتاكلان الإرهابي عام 2015. ورغم غياب الإشارة المباشرة إلى جماعة الإخوان، إلا أن التطرف الذي يتناوله يرتبط، فكريًا أو مناخيًا، بأدبيات جماعات تُنتج خطابًا مزدوجًا داخل أوروبا، ومنها الإخوان.

المميز في العمل أنه لا ينزلق إلى الكراهية المضادة. فالرجل المفجوع يرفض أن يُورث ابنه الحقد، لكن المعالجة الإنسانية لا تُخفي مرارة الواقع: العدالة بطيئة، والجماعات التي أنتجت هذا العنف لا تزال تواصل بث خطابها عبر قنوات ناعمة، محصّنة بلغة دينية مدروسة.

الفيلم يسلّط النظر على ما يبقى بعد العنف: فراغ العدالة، وتشوه المعنى، ومجتمعات لا تزال تبحث عن طريقة للفهم دون أن تقع في فخ الانتقام.

فيلم صنع في فرنسا

الملامح اليومية لـ”الإخوانجي”

لا يظهر “الإخوانجي” في هذه الأفلام كخطر صريح، بل كشخصية مزدوجة، تخفي وراء خطابها المعتدل نبرة إقصائية متوترة. السينما الفرنسية التقطت هذا التناقض، فعرَضت كيف يقدّم الفرد نفسه بهدوء ودماثة، بينما يحمل داخله مشروعًا يرفض الاندماج، ويروّج لفكر يختبئ خلف الكلمات المهذبة.

غالبًا، لا تتحرّك هذه الشخصيات في قلب المدن، بل في ضواحي مهمّشة، حيث يُعاد بناء الهوية بعيدًا عن المجتمع. هناك، يُصاغ خطاب بديل، يقدّم الإسلام كمنظومة مكتفية بذاتها، ويحضّ على الانفصال، لا بالمواجهة، بل بالتمايز والصمت المنظم.

وتختار السينما شخصيات عادية: إمام، مربٍّ، جار، أو طفل. لكنها شخصيات تحمل بذور فكرة أكبر، تتسرّب بهدوء إلى المحيط. الفكرة لا تأتي عبر شعارات، بل من لغة يومية تبدو بريئة، لكنها تخفي نظامًا ثقافيًا وسياسيًا متكاملًا.

ولا تسعى هذه الأعمال إلى الوصم أو التحريض، بل إلى تفكيك البنية الفكرية والتنظيمية. فهي لا تهاجم، بل تحلّل، مظهرةً كيف يمكن لمشروع أيديولوجي أن يتخفّى تحت مظاهر دينية مسالمة. السينما هنا لا تكتفي بالعرض الأمني، بل تشتغل على البعد الثقافي والاجتماعي، وتفكك طريقة صناعة الشعور بالمظلومية والاختلاف.

فيلم صنع في فرنسا

السينما الفرنسية كذاكرة مضادة

لم تخترع السينما الفرنسية صورة “الإخوانجي”، بل استمدّتها من الواقع: من المساجد، والمناهج، وأحياء الضواحي، ومن حكايات الضحايا الصامتة. هي لا ترى الجماعة كتشكيل تنظيمي فحسب، بل كتصور شامل للعالم، يتسلل إلى النسيج الاجتماعي، ويُعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء، ويدير علاقته بالجمهورية الفرنسية بحذر وازدواجية واستراتيجية طويلة النفس.

في هذا السياق، تغدو السينما حقلًا رمزيًا موازيًا للسياسة، وأحيانًا متقدّمًا عليها. تقدم روايتها بوسائل ناعمة، لكنها لا تقل عمقًا أو تأثيرًا.

فرنسا، كما تكشف هذه الأفلام، لا تخوض معركتها فقط ضد العنف، بل ضد المعاني المتحوّلة. والسينما اختارت أن تمسك بالخيط من بدايته: لا من صدى التفجيرات، بل من همسات ما قبلها.

aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز FR



‫0 تعليق

اترك تعليقاً