شارع J والأقلام الأربعة

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!



في العاصمة الأمريكية واشنطن، لو بحثت عن شارع باسم «J-Street» لن تجده، لكن ستجد منظمة يهودية في واشنطن أطلقت على نفسها منظمة «J-Street»

وترجع التسمية هذه لكون العاصمة الأمريكية لا تحمل أي شارع بهذا الاسم في تقسيم شوارعها عبر الحروف الإنجليزية، كما أن هذا الحرف المفقود في شوارع واشنطن هو الحرف الأول لكل من كلمة عدالة ويهود بالإنجليزية، وأيضًا هو الحرف الأول من اسم مؤسس المنظمة «Jeremy».

تتميز منظمة «J-Street» بكونها منظمة يهودية ليبرالية على عكس منظمة «إيباك AIPAC» اليمينية، وقد أُنشئت عام 2008، وتهدف إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالطرق السلمية والدبلوماسية، وهذا السلام المنشود يحمل في رؤيتها أمن وديمقراطية وقومية إسرائيل مع قيام دولة فلسطينية واستقرار منطقة الشرق الأوسط وتخفيف العبء الأمني على واشنطن في المنطقة.

وبالنظر في الظروف السياسية التي قامت عليها، نجدها متأثرةً بفشل مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي الذي أتى من بوابة احتلال العراق 2003 مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ومسار المحافظين الجدد، فالمنظمة أقرب إلى نهج الحزب الديمقراطي من خلال صفة أعضائها الليبرالية ومن كون المؤسس لها جيريمي بن عامي كان مستشارًا للسياسات العامة في إدارة بيل كلينتون، وله خلفية عائلية من هجرة أجدادهِ وآبائهِ إلى فلسطين/إسرائيل، ثم مولدهُ في هجرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن الأسباب التي دفعت إلى تكوين المنظمة الإدراك الكبير من قبل «أعضاء المنظمة» بأن اليهود في العالم الغربي باتوا كغيرهم من الأقليات العرقية والإثنية يتضايقون من مظاهر الفاشية في بعض المجتمعات بالمدن مع التمييز العنصري، لذا فهم يدعمون الأحزاب الديمقراطية في البلدان الغربية، ويرون بأنهم أصبحوا أكثر مسؤولية في وضع ومسارات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإمكانية خلق سلام دائم، وتحاول المنظمة أن يكون لها ثقل سياسي لدى الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة والكونغرس، وعبر الشخصيات اليهودية المؤثرة في السياسة والتجارة.

تواجه منظمة «J-Street» عقبات وتحديات في مساعي خلق السلام وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ففي معوقات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تعتقد المنظمة بأن المستوطنات الإسرائيلية تمثل عبئًا سياسيًا وأمنيًا على إسرائيل، وأيضًا عائقًا نحو إحلال السلام. مع ذلك، لقد وُجّهت لها بعض الانتقادات في عدم مقاطعة البضائع الإسرائيلية من المستوطنات، وكان ردها بأن المقاطعة لا تجدي نفعًا، بل المشكلة والمعضلة هي الحدود، وجدير بالذكر هنا بأنها كانت ضاغطة على إدارة أوباما لمنع بناء المستوطنات، ولكن الضغط لم يثنِ حكومة نتنياهو آنذاك، ونجد بأن قضية القدس جعلت المنظمة تميل إلى كون حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ممكنًا عبر حل الدولتين وخلق كونفدرالية في مدينة القدس، والتي لا يمكن الفصل فيها لصالح طرف على حساب الآخر.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أهم التحديات التي تصدت لها المنظمة، فعندما كان عمر «J Street» بضعة أشهر فقط، واجهت أول تحدٍ خطير يهدد استمرارها ومصداقيتها، حيث شنت إسرائيل هجومًا عسكريًا على قطاع غزة 2008، عُرف باسم عملية الرصاص المصبوب «Operation Cast Lead»، واتخذت المنظمة موقفًا حازمًا ضد الهجوم، وتصادمت مع المؤسسة السياسية اليهودية الأمريكية «إيباك».

حقيقةً، المنظمة دائمًا تؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية التي تشنها حركة حماس، لكنها هي ضد الاستخدام المفرط في القوة العسكرية، خاصةً وأن مدينة غزة، كما يصفها الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، أكبر سجن في العالم.

وهناك مواقف متغيرة للمنظمة، فقد كانت داعمة للمفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني في فترة الرئيس السابق أوباما، معتقدةً بإمكانية استمرار نظام الملالي في إيران، ثم وقفت «J Street» داعمةً للشعب الإيراني في وجه عنف الحكومة الإيرانية في الاحتجاجات السلمية بعد مقتل جينا أميني على يد الشرطة الإيرانية، وأشادت المنظمة بشجاعة الشعب الإيراني متعدد الهويات – والنساء الإيرانيات على وجه الخصوص – ومدى المخاطرة في الدفاع عن حقوقهن الأساسية، ورحبت المنظمة بإدانة إدارة بايدن لحملة القمع التي تشنها الحكومة الإيرانية، وتحركها لفرض عقوبات إضافية على المسؤولين الإيرانيين المتورطين في قمع الحريات، وقالت المنظمة أيضًا: سنستمر في الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة التي تعزز مستقبلًا آمنًا ومزدهرًا للشعب الإيراني وشعوب المنطقة الذين تهددهم تصرفات النظام الإيراني.

وإلى مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لا ينكر جيريمي بن عامي، رئيس «J Street»، بأن التطبيع العربي مع إسرائيل هو أخبار سارة لجميع الذين يرغبون في رؤية إسرائيل مستقرة ومزدهرة تعيش في سلام وأمن إلى جانب جميع جيرانها الإقليميين، وأشار إلى أنه لا ينبغي أن يكون ذلك بديلًا عن الدبلوماسية مع الفلسطينيين.

وقال إن السلام الشامل بين إسرائيل وجيرانها في العالم العربي لن يتحقق إلا من خلال اتفاق يحل القضايا الجوهرية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة إلى جانب إسرائيل.

رغم كل هذه المساعي من المنظمة في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهي مازالت في مرحلة مبكرة من أن يكون لها ثقل سياسي في الولايات المتحدة يوازي ثقل منظمة «إيباك»، وجدير بالذكر بأن المنظمة لا تتهاون في أمن إسرائيل وبقاء تفوقها العسكري. مقابل ذلك، تحاول الضغط على إسرائيل عبر الإدارة الأمريكية لدفعها نحو حل الدولتين، وتبحث عن إمكانية مستقبلية لخروج إسرائيل من المظلة الأمريكية السياسية والأمنية والعسكرية حيث السلام والاستقرار بين إسرائيل ودول منطقة الشرق الأوسط، وهي تؤمن ومؤيدة لدولة إسرائيلية قومية وآمنة ومتطورة وقوية وديمقراطية، لذا البعض يربط اختلافها مع منظمة «إيباك» بالاختلاف بين حزب كاديما الإسرائيلي المتأسس عام 2005 من عباءة حزب الليكود اليميني، والذي «حزب كاديما» يؤمن بقومية دولة إسرائيل وبديمقراطيتها، ويرى ضرورة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر الدولتين ومن خلال إحياء واستمرار المفاوضات.

بينما نحن نتأمل في المنظور السياسي لمنظمة «J Street»، يأخذنا صوت ضجيج الواقعية عبر المقالة المنشورة في مجلة «Foreign Affairs» والصادرة تحت عنوان: «واقع الدولة الواحدة في إسرائيل: حان الوقت للتخلي عن حل الدولتين – Israel’s One-State Reality: It’s Time to Give Up on the Two-State Solution»، فقد قدمت هذه المقالة الطويلة، بكتابها الأربعة، عوامل كثيرة وواقعية تكشف عن حقيقة استحالة حل الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فليس هناك حل سوى الدولة الواحدة.

ومن المحاور المطروحة في المقالة، كون إسرائيل تعاني من تضارب الهوية والدور بين الدولة الدينية والقومية العنصرية وبين الليبرالية الديمقراطية، فما زالت إسرائيل تمثل الدولة القومية الدينية اليهودية على حساب الدولة الديمقراطية العلمانية، فالديمقراطية في إسرائيل فقط لليهود، حيث إن عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل مع ائتلاف يميني متطرف ضيق الأفق حطمت وهم حل الدولتين، على سبيل المثال، كتب نتنياهو إن «إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها» بل هي «دولة للشعب اليهودي»، كما أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بأن غزة يجب أن تكون لنا نحن اليهود.

ومن أهم النقاط المثارة في المقالة، والتي سببت صخبًا عليها من قبل اليهود اليمينيين، هو ما طرحته بأنها بأن الولايات المتحدة الأمريكية، الداعمة الأكبر والأهم لإسرائيل، ما زالت توهم نفسها بأن هناك فرصة للعودة إلى مفاوضات الدولتين، خاصةً في حالة مغادرة حكومة نتنياهو اليمينية، وترى المقالة وكتّابها الأربعة بأن هذا الوهم الأمريكي ناتج عن ازدواجية في التعامل بين واشنطن ومختلف الدول، لذا يجب على واشنطن التوقف عن استثناء إسرائيل من معايير وهياكل النظام الدولي الليبرالي، والذي تأمل واشنطن في استمرار قيادته وانتشاره حول العالم والحكومات.

وقد كشفت المقالة عن حقيقة أن خيار الدولة الواحدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس احتمالًا مستقبليًا، بل إنه موجود بالفعل وعلى أرض الواقع، فبين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، تتحكم دولة واحدة في كل شيء من دخول وخروج الأشخاص والبضائع، إلى جانب الأمن وقدرتها على فرض كافة السياسات وتطبيق مختلف القوانين على كل من هو في الإقليم، حتى قطاع غزة تُعتبر واقعيًا مقيدة بالسيطرة الإسرائيلية على الحدود البرية والبحرية.

وهذه السيطرة الإسرائيلية على الإقليم أمست تعكس معضلة نظام الفصل العنصري كحالة جنوب أفريقيا، والذي استخدمته حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا لترسيخ سيادة البيض من عام 1948 إلى أوائل التسعينيات، وعلى ذلك، قامت منظمات حقوقية كبرى، بما في ذلك «هيومن رايتس ووتش» و«منظمة العفو الدولية»، بتطبيق المصطلح على إسرائيل، وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الأكاديميين، ولقد تزايد الإدراك حول أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو في الأساس يجسد صراعًا داخل إقليم واحد بسيطرة وهيمنة يهودية عبر نظام فصل عنصري.

في ختام المقالة، نضعكم مع فكرة مهمة لكتّاب المقالة الأربعة، والتي تقول: لقد سمحت عملية السلام للديمقراطيات الغربية بالتغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي لصالح مستقبل طموح ينتهي فيه الاحتلال بالتفاوض المتبادل وإقامة دولة فلسطينية، وإذا تعامل الغرب في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من المنظور الواقعي لدولة واحدة، ستكون هذه الدولة عنصرية ليس لها في عالم الديمقراطيات أي مقعد، كما ستكون معرضةً لمختلف العقوبات والمقاطعة.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة



‫0 تعليق

اترك تعليقاً