في مكاتب الرئاسة، أمام شاشات التلفزيون، جلس الرئيس الإخواني محمد مرسي محاطًا بمساعديه يراقب الميادين تفيض بالبشر، وفي مكاتب وزارة الدفاع، كانت الهواتف لا تهدأ، والتقارير تتوالى، والعين على الشارع، والقرار يقترب.
في الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو، تعود إلى سطح المشهد السياسي مجددًا كواليس تلك الساعات الحاسمة، اتصالات من قطر، ومبادرات أمريكية، وتقديرات أمنية ترفع إلى رئيس لم يعد يرى سوى جماعته، ومؤسسة عسكرية توازن بين تفويض الشعب وحدود التاريخ.
من شهادات مسؤولين سابقين، تنكشف خيوط الرواية الكاملة، كيف بدأت الاتصالات؟ من حاول الوساطة؟ ولماذا سقطت كل المبادرات قبل أن تنطلق؟
قصة كاملة كشفها الكاتب الصحفي الراحل ياسر رزق، في كتابه “سنوات الخماسين” الصادر عام 2022، لما جرى بين 30 يونيو و3 يوليو عام 2013، حين قرر المصريون أن يكتبوا نهاية جماعة، ويعيدوا رسم خريطة الوطن.

اتصالات ما قبل عاصفة 30 يونيو
قبل ساعات من خطاب الفريق أول عبدالفتاح السيسي مساء 3 يوليو، وتحديدًا في مطلع يوليو 2013، تلقى مساعد الرئيس محمد مرسي للشؤون الخارجية، عصام الحداد، اتصالًا من وزير الخارجية القطري خالد العطية، ينقل فيه مقترحًا أمريكيًا صاغه وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري.
المبادرة كانت تتضمن ثلاث نقاط: الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وتعديل دستوري واسع، وبقاء مرسي في الحكم بصلاحيات محدودة، لكن رد الحداد كان قاطعًا: رفضٌ كامل دون نقاش. وبحسب رواية خالد القزاز، سكرتير مرسي، فإن المبادرة لم تجد أي تجاوب من القيادة الإخوانية.
تقديرات الجيش ورسائل بلا رد قبل 30 يونيو
في كتابه، يذكر ياسر رزق أن الفريق السيسي أرسل إلى الرئيس محمد مرسي أربعة تقارير أمنية خلال الأسابيع السابقة لـ30 يونيو، تضمنت تحذيرات واضحة من تصاعد الغضب الشعبي، مع توصيات بضرورة التهدئة والتجاوب مع المطالب المدنية، لكن مرسي، رغم ترحيبه الشكلي بهذه التقديرات، لم يترجم أي توصية إلى قرار عملي.
مبادرة الجيش.. وفيتو الشاطر
وفي لحظة مفصلية، اقترح وزير الدفاع عقد مبادرة وطنية شاملة داخل القرية الأولمبية، تجمع القوى السياسية كافة. مرسي أبدى ترحيبًا مبدئيًا، لكن المبادرة سقطت بمجرد تدخل نائب المرشد خيرت الشاطر، الذي اتصل بالسيسي مباشرة وطلب إلغاءها.
لقاء استثنائي.. السيسي والشاطر والكتاتني
في الأسبوع الأخير من يونيو، وقبل إنذار الـ7 أيام الذي أصدرته القوات المسلحة، جمع لقاء نادر بين الفريق عبدالفتاح السيسي، وخيرت الشاطر، وسعد الكتاتني.
خلال اللقاء، لوّح الشاطر بأن أي إطاحة بمرسي ستقابل برد فعل عنيف من جماعات في سيناء، مستخدمًا أسلوبًا استعراضيًا جسّده بالإشارة إلى بندقية وهمية.
رد السيسي كان حاسمًا: “أنتم عايزين تحكمونا أو تموتونا؟ لو حد قرب من منشأة عسكرية مش هسكت له وكمان كرهتوا الناس في الدين”.
خطاب مرسي الأخير قبل 30 يونيو
في اليوم السابق على الثورة، ألقى مرسي خطابًا طويلًا استهدف فيه الشارع المصري، كان الفريق السيسي حاضرًا، وإلى جواره عمرو دراج، وزير التخطيط حينها، الذي لاحظ – حسب شهادة ياسر رزق – أن ملامح وجه وزير الدفاع بدت جامدة وغير متفاعلة مع الخطاب، على عكس الحاضرين.
انسحاب أسعد الشيحة، نائب رئيس الديوان، قبل نهاية الخطاب زاد القلق، لأنه لم يكن من المعتاد أن يترك المسؤول موقعه خلال لحظة كهذه.

30 يونيو.. لحظة النزول الكبير
بينما كانت ميادين مصر تمتلئ بالملايين، وفق تقديرات القوات المسلحة، قال مرسي في لقائه مع السيسي مساء 30 يونيو إن “اللي نزلوا حوالي 120 ألف بس”، ليجيبه السيسي: “أجيب لك فيديوهات تثبت إن الشعب كله نزل؟”، لكن مرسي رفض، وقال: “دي فيديوهات فوتوشوب”.
وبدلًا من التحدث عن التهدئة، طالب مرسي بإعادة البرلمان المعزول، وهو ما اعتبره الجيش والشارع تجاهلًا كاملًا للواقع.
1 يوليو.. بيان مهلة الـ48 ساعة
في اليوم التالي، أعلنت القوات المسلحة بيانًا رسميًا منحت فيه مهلة 48 ساعة للقوى السياسية، وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، للاستجابة للمطالب الشعبية.
وبينما التقى السيسي بالرئيس في اليوم ذاته، فوجئ مرسي بقراءة البيان عبر شاشة التلفزيون، فتغيّر موقفه فجأة، وأبدى انزعاجه مما اعتبره “إنذارًا علنيًا”.
اتصالات اللحظة الأخيرة
بحسب كتاب “سنوات الخماسين”، فإن السفيرة الأمريكية آن باترسون، طلبت من اللواء محمد العصار تأجيل أي قرارات لمدة 48 ساعة، لكن مسؤولي الجيش شككوا في الهدف من هذا الطلب، واعتبروه محاولة لكسب الوقت لصالح جماعة الإخوان.
3 يوليو.. لحظة إعلان خريطة الطريق
قبل إذاعة البيان، التقى السيسي بممثلي القوى الوطنية وجبهة الإنقاذ، واقترح فكرة طرح استفتاء شعبي على بقاء مرسي في الحكم، لكن الحضور أجمعوا على أن الوقت تأخر كثيرًا، وأن الخيار الوحيد هو إنهاء حكم الإخوان.
في مشهد البيان، ترك الكرسي المخصص لجماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة فارغًا، في إشارة رمزية لغيابهم عن لحظة توافق وطني تاريخية.