إيران.. هل حان وقت إعادة بناء الثقة مع الخليج؟

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!



عندما انطلقت الضربات الجوية الإسرائيلية على إيران وما تلاها من هجوم أمريكي استهدف مواقعها النووية، بدا المشهد قاتما وكأنه إعادة صياغة درامية لمشهد قديم من التوتر المزمن في المنطقة..

وعادت الذاكرة إلى الوراء إبان الغزو الأمريكي للعراق، وما تلا ذلك من حقبة سوداء استمرت سنوات، لكن ما حدث هذه المرة أخذ منحى خطيرا وغير مسبوق وسط تقلبات سياسية وعسكرية تعيشها المنطقة منذ أكثر من عامين.

ولأن وقت الشدائد تظهر معادن الرجال، وكذلك الدول، جاءت مواقف دول الخليج غير متماهية مع منطق التصعيد، بل انحازت بكل وضوح لا يشوبه الشك إلى لغة التهدئة، وأبدت رغبة صريحة في تجنيب الإقليم كلفة حرب لا تُحتمل، حتى وإن كان الطرف المستهدف خصما تاريخيا كإيران، في مفارقة لافتة وإيجابية تؤكد دوما أن المنح تولد في أوقات المحن.

لقد بادرت السعودية والإمارات وقطر، ومعها سلطنة عمان والكويت والبحرين، إلى توجيه رسائل دبلوماسية قوية تدعو إلى وقف التصعيد، كما تحركت هذه الدول في المحافل الدولية، مؤكدة على ضرورة معالجة الملفات العالقة، وعلى رأسها البرنامج النووي الإيراني، عبر المسار السياسي، كخيار لا يحمل تأويلا أو مواربة وكمسار إجباري بعيد كل البعد عن المسار العسكري الهادم والمدمر لقدرات الشعوب.

هذا الموقف الخليجي لم يكن وليد مجاملة دبلوماسية بروتوكولية، بل تعبيرا صريحا عن نضج سياسي تراكم على مدى سنوات، أسسته قناعة عميقة بأن المواجهة المباشرة مع إيران لن تعود بالنفع على أحد، وأن أمن الخليج لا يبنى على أنقاض الجيران ولا بأيادي الغرباء، مهما اختلفت السياسات وتنازعت المصالح.

لكن جاءت الطامة الكبرى عندما وجهت إيران فوهات صواريخها صوب قطر في خطوة غير مفهومة، صحيح أن طهران بررت الأمر بأنه استهداف لقاعدة العديد الأمريكية ردا على الهجمات الأمريكية، لكن الرسالة وصلت إلى الخليج ملغمة وحملت انطباعا سلبيا شديد الخطورة.

هذا الاعتداء لم يصب قطر وحدها، بل مس شعورا خليجيا جماعيا بالأذى، لأنه ضرب صلب مفهوم السيادة الوطنية، وجاء في لحظة كان فيها الخليج يحاول أن يكون جسرا، لا جبهة. لذلك، لم يكن مستغربا أن تعلن دول المجلس تضامنها الكامل مع قطر، وتعتبر أن ما جرى يمس أمنها القومي، ويتطلب مراجعة شاملة لعلاقة “متقلبة” مع إيران.

الآن، وبعد أن انقشع دخان الحرب، وانكفأت الصواريخ إلى منصاتها، وهدأت طبول المواجهة، تبقى الأسئلة الكبرى معلقة: هل تدرك إيران أنها أهدرت فرصة نادرة لإعادة بناء الثقة؟ وهل آن الأوان لأن تتعامل مع جوارها الخليجي لا بوصفه ساحة نفوذ، بل شريكا حيويا في معادلة الاستقرار؟

فالاعتداء الإيراني لم يكن مجرد عمل عسكري، بل كان خرقا لثقة بدأت تبنى بعد سنوات من التباعد، وشرخا في جدار تطبيع بدأ يشيّد لبنة لبنة، بدءا من التحسن الملحوظ في العلاقات الإماراتية–الإيرانية عام 2022 بعدما تم إعادة السفير الإماراتي إلى طهران، وبدء زيارات الوفود الاقتصادية والبرلمانية، وانطلاق مشاورات تجارية في قطاعات الملاحة والمناطق الحرة والطاقة.

وقد عكست تلك الخطوات رغبة إماراتية في إدارة الخلافات بعيدا عن منطق المواجهة، وإرساء نموذج من التعايش الحذر القائم على المصالح المتبادلة واحترام السيادة.

تبعه الاتفاق السعودي–الإيراني بوساطة صينية في مارس 2023 والذي فتح أبواب الدبلوماسية على مصراعيها بعد سنوات من القطيعة والتوتر، زامنه خطوات ملموسة تمثلت في إعادة السفراء، وتفعيل اللجان المشتركة، وتدشين قنوات اتصال أمني وسياسي بين البلدين.

وفي ذات السياق، برزت محاولات لإعادة الدفء إلى العلاقات بين إيران والبحرين، بعد سنوات من الفتور، حيث أبدت المنامة استعدادا مشروطا لفتح صفحة جديدة، إذ جرت اتصالات أولية ومساع لإعادة التمثيل الدبلوماسي بشكل تدريجي، مع تأكيد بحريني على ضرورة احترام السيادة وعدم التدخل في الملفات الأمنية.

أما الكويت، فكانت تاريخيا الأقل توترا مع إيران بين دول الخليج، وشكلت حلقة تواصل مهمة بين ضفتي الخليج. وقد اتسم موقفها الأخير إزاء الحرب بالحكمة والهدوء، واستمرت قنوات الاتصال الدبلوماسي قائمة، مع تأكيد كويتي دائم على ضرورة التزام إيران بحسن الجوار والكف عن الأنشطة التي تهدد استقرار الخليج العربي.

كما لعبت سلطنة عمان وقطر أدوارا دبلوماسية فعالة في تسهيل المحادثات بين طهران والغرب، وخصوصا بشأن الملف النووي والعقوبات.

لكن هذه المكاسب مهما تعاظمت أهميتها تظل ضئيلة التأثير ما لم يكن هناك ثقة حقيقية لدى إيران تجاه الخليج بعيدا عن الشعارات الدبلوماسية، وذلك يتطلب خطوات دقيقة ومدروسة عبر إطلاق حوار استراتيجي شامل بين الطرفين، يتناول كافة الأمور العالقة مثل الأمن البحري، والطيران المدني، والحد من التسليح الصاروخي، والإعلام، والفضاء السيبراني، كل ذلك في إطار اتفاقيات واضحة وملزمة.

مع الوضع في الاعتبار ضرورة وضع آلية مراقبة مستقلة وموثوقة لمواقع البرنامج النووي الإيراني، يشارك فيها خبراء من دول الخليج، لتبديد المخاوف القديمة وتعزيز الشفافية.

جنبا إلى جنب تأتي شراكات اقتصادية تُنقل من ضفاف الكلام إلى ساحات الاستثمار، عبر صناديق تنمية وتبادل تجاري، يربط الاقتصاد الإيراني بمصالح مشتركة يصعب معها الانزلاق إلى مغامرات غير محسوبة.

كل هذا لابد وأن يغلف بحظر صريح وملزم لأي دعم مباشر أو غير مباشر للمليشيات المسلحة في الإقليم، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، مع تقديم ضمانات تنفيذ دولية.

فكرة ترميم الثقة لم تعد أولوية قصوى، بل حاجة استراتيجية ملحة، والخليج الذي أثبت مرارا أنه يتعامل مع الجوار بعقل الدولة لا بروح الثأر، لا يزال بابه مفتوحا لكل من يقر بأن احترام السيادة خط أحمر، وأن المصالح المشتركة يجب أن تدار بشفافية لا ازدواجية.

إننا، في هذه اللحظة المفصلية، نتساءل هل تملك طهران الجرأة السياسية لتعيد تعريف علاقتها بهذا الإقليم، خارج منطق السلاح والمليشيات والصواريخ؟

ربما تكون هذه هي فرصة تولد من رحم الحرب لأن تكتب صفحة جديدة من العلاقات الإيرانية الخليجية، تستبدل الشك بالتفاهم، والريبة بالتعاون، والتوتر بالطمأنينة، والتنافر والخصومة بالأخوة والتسامح.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة



‫0 تعليق

اترك تعليقاً