خبراء “الفرط صوتي”.. اتركوا التحليل العسكري لأهله

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


كنت في حوار طويل مع صديقي، الباحث المتميز د. عمرو حسين، حول مشهد التحليل العسكري والإعلامي في العالم العربي، وقد أبدى استياء بالغا مما أسماه “ظاهرة الفرط صوتي”، حيث تتكدس الشاشات بمن يزعمون الفهم العسكري دون تخصص، ويفرغون المصطلحات من معناها لصالح الاستعراض اللفظي والتضخيم غير العلمي.

طالبني مشكورا بأن أجدّد الكتابة عن هذه الظاهرة التي لا تقتصر خطورتها على مضمونها، بل تتعداه إلى أثرها السلبي على وعي الجمهور، وهو محق، فنحن اليوم أمام فوضى تحليلية تتحدث عن الصواريخ كأنها أدوات ديكور، وتتناول الطائرات والقنابل بلغة أقرب إلى الإنشاء منها إلى العلم، في غياب شبه تام لأي التزام بالمعايير المهنية أو المعرفية، إن تحليلات “الفرط صوتي” ليست مجرد ظاهرة إعلامية عابرة، بل إنذار مبكر على تراجع احترام التخصص، وتمدد التسلية المقنعة في ثوب التحليل، وهي ظاهرة لا بد أن تواجه بالردع المهني، والتأهيل المؤسسي، وصوت العقلاء.

منذ اندلاع الحرب الإيرانية والكيان الصهيـوني في المنطقة، وكل مرة تهتز فيها الجغرافيا بصاروخ أو تتصدع العواصم بانفجار، يقفز إلى المشهد طيف مألوف من “الخبراء” و”المحللين الاستراتيجيين”، ممن يتعاملون مع الشاشات كمنصات شخصية، ومع الكاميرات كأنها جزء من غرفة عمليات عسكرية، وباتت التحليلات العسكرية والجيواستراتيجية مجالا مفتوحا لمن هبّ ودبّ، دون ضوابط معرفية، أو حدود أخلاقية، أو حتى قدر بسيط من المسؤولية الإعلامية، نشهد اليوم تحولا غريبا في وظيفة “الخبير” من شخص يبحث ويحلل ويشرح بتوازن، إلى آخر يلقي مصطلحات ثقيلة بلا سياق، يستعرض من خلالها قوائم صواريخ، وأحجام متفجرات، وأسماء طائرات، وكأنه يتحدث عن أسعار الخضروات لا أدوات حرب.

هكذا يتحدث البعض عن صواريخ “فرط صوتية”، ومدى تأثيرها التدميري، و”القدرات الخارقة” للطائرات، وكأنهم خبراء تصنيع عسكري، وليسوا باحثين أو محللين سياسيين، بل يتورّط البعض في توصيفات دقيقة – لا يُفترض بأي باحث أن يخوض فيها– حول تركيب القذائف، وآلية الدفع، ودرجة التفجير، متجاوزين بذلك حدود التحليل السياسي نحو ما يشبه تقريرًا فنيا من داخل أحد مصانع الأسلحة.

الطامة الكبرى أن هذا يحدث في غياب تام لأي مراعاة لدقة التعبير، أو حتى للدبلوماسية التي ينبغي أن يتحلى بها من ينتمي إلى دولة ذات موقف رسمي، إذ تجد “الخبير” يتحدث بحدة لا تتفق مع منطق بلاده، ويشرح بلغة عسكرية ما مفاده التقليل من قدرة الصواريخ الإيرانية في تنفيذ أهداف عسكرية داخل تل أبيب، وهو ما لا يليق بموقعه كمراقب، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويش المواقف الرسمية لا توضيحها.

إن ما يعرف بالتحليل الاقتصادي أو السياسي ليس وظيفة مفتوحة للتجريب اللغوي والاستعراض الصوتي، فالكلمة الموزونة والتحليل العميق، لا يقاسان بعلو الصوت أو كثافة المصطلحات، بل بمدى انضباط السياق، ودقة الربط بين المعطى السياسي والاقتصادي والمعلومة العسكرية، غير أن بعض من يطلون علينا في الفضائيات باتوا أقرب إلى مؤدين في مشهد ما بعد الحقيقة، حيث يكفي أن ترتدي بدلة، وترفع نبرة صوتك، وتطلق كلمات مثل “الردع الاستراتيجي”، و”الهجوم السيبراني”، و”الهيمنة الجوية”، لتصبح خبيرًا في نظر العامة.

لقد كشفت الحرب الجارية بين طهران وتل أبيب أن الإعلام العربي يمر بأزمة حقيقية، لا تتعلق فقط بالمضمون، بل بمن يسمح له بالحديث، فكيف نفسر أن نفس “الخبير” يحلل ضربات في خمس دول خلال أسبوع واحد؟ وهل يمكن أن نأخذ تقييما جادا من شخص يبدّل موقفه وتحليله وفق القناة التي يظهر عليها؟.

ما نراه اليوم لا يعبر عن الوعي، بل عن فوضى في الوعي، تسهم في ترسيخ سطحية عامة، يتداول فيها الناس تحليلات “الفرط صوتي” بطريقة ساخرة، تصل أحيانا إلى التندر والسخرية الشعبية، مما يفقد القضايا الكبرى هيبتها ومكانتها في الوجدان الجمعي.
  
اتركوا التحليل العسكري لأهله، فليس كل من قرأ عنوانا عن صاروخ أو تابع نشرة أخبار يمكنه أن يدلي بدلوه في تفاصيل المعارك، ومدى القذائف، ونوع الذخائر، التحليل العسكري علم دقيق، يرتكز على معطيات فنية وميدانية لا يدركها إلا من تلقى تدريبا متخصصا، أو خبر ساحات القتال، أو درس الاستراتيجيات في سياقاتها الحقيقية، حين يتحدث غير المتخصص عن قدرات الطائرات أو فعالية الدفاعات، فهو لا يضيف وعيا بقدر ما ينشر الوهم، ويشوش الرأي العام، فالمسؤولية هنا ليست مجرد رأي، بل التزام بمعايير مهنية تحفظ للمعلومة هيبتها وللجمهور حقه في الفهم الرشيد.

وأنا إذ أحذر من تمدد هذه الظاهرة، فإنني أدعو بوضوح إلى مراجعة جادة لمنظومة الخبراء والمحللين في وسائل الإعلام العربية، فالأمر لا يخصّ حرية التعبير، بل يتعلق بمسؤولية الكلمة، وبخطر تزييف الإدراك العام، وبأن نسلّح الجماهير بالوعي لا بالضجيج، إن “خبراء الفرط صوتي” باتوا اليوم ظاهرة تستحق الدراسة والردع، لا الترويج والتكرار، لأن من يتحدّث عن قنبلة تزن طنين دون أن يفهم سياقها السياسي، لا يختلف عن من يصرخ في الصحراء معتقدًا أنه يخطب في الأمم المتحدة.

إن استمرار اعتماد المؤسسات الإعلامية على هذا النوع من الخبراء يضع مصداقيتها على المحك، ويكشف عن فراغ مهني خطير في آلية اختيار الضيوف والمحللين، فغياب التخصص الحقيقي، وخلط التحليل العسكري بالسياسي دون مرجعية أو تدريب، يؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا: تشويش الرأي العام، وإرباك صانع القرار، والإضرار بصورة الدولة نفسها التي يتحدث منها المحلل. المطلوب ليس فقط وقف هذه الفوضى، بل تأسيس قواعد مهنية دقيقة لاستضافة من يتناول قضايا الحروب والسلاح والاستراتيجيات، لأن الخطأ في هذا النوع من الخطاب لا يُضحك فقط، بل قد يُضلل ويؤذي.

تشير ظاهرة تضخم عدد “الخبراء” في الفضاء الإعلامي العربي، لا سيما في مجالات التحليل العسكري والجيوسياسي، إلى خلل بنيوي في العلاقة بين المعرفة المتخصصة ومتطلبات الإعلام الجماهيري، فمن الناحية المفاهيمية، يفترض في الخبير أن يكون حاصلا على تكوين معرفي رصين، مدعوما بخبرة ميدانية أو أكاديمية، تمكّنه من تقديم قراءة نقدية للأحداث ضمن أطر علمية دقيقة، غير أن ما نشهده حاليا هو انزياح واضح نحو التخصص التلفزيوني، حيث تستبدل المعايير العلمية ببلاغة لفظية واستعراض مصطلحات، وهو ما يفرّغ التحليل من محتواه ويحوله إلى خطاب استهلاكي ترفيهي، هذه الظاهرة لا تنطوي فقط على تزييف للوعي العام، بل تشكل تهديدا لمنظومة إنتاج المعرفة الرصينة، وتستوجب تدخلا منهجيا يعيد ضبط العلاقة بين الإعلام والخبرة، عبر تعزيز المساءلة المهنية وتفعيل دور المؤسسات العلمية في ضبط المشهد التحليلي.

لمواجهة ظاهرة “الخبراء العشوائيين” وتحليلات “الفرط صوتي” التي اجتاحت الإعلام العربي، تبرز الحاجة الملحة إلى إنشاء مركز مستقل على غرار مركز قدرات أعضاء هيئة التدريس لا يتبع أي كلية في جامعة القاهرة يكون متخصص في تحليل السياسات سواء الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلام الاستراتيجي، تكون مهمته إعداد وتأهيل الخبراء الحقيقيين وفق معايير علمية ومهنية دقيقة، يتولى هذا المركز تقديم برامج تدريبية متكاملة في مجالات تحليل النزاعات، وفهم السياقات الجيوسياسية، وضبط الخطاب الإعلامي، إلى جانب منح تراخيص اعتماد للمحللين المؤهلين للظهور الإعلامي، كما يعمل على إنشاء قاعدة بيانات مرجعية للمحللين المعتمدين، وإصدار تقارير دورية تقيم الأداء التحليلي في وسائل الإعلام، بما يضمن تقديم خطاب مسؤول وعلمي يخدم وعي الجمهور ولا يضلله، ويعد ربط الأكاديمية بالمراكز البحثية والجامعات شرطًا لضمان العمق المعرفي، وتحقيق التحول من منطق الضجيج والارتجال إلى منطق التحليل الرصين القائم على المعرفة والتخصص.

كلمة أخيرة، التحليل العسكري ليس حلبة لتسجيل المواقف ولا فضاء للبلاغة الصوتية، بل علم دقيق له رجاله وأدواته ومدارسه، وإذا استمر هذا التطفل التحليلي دون ضوابط، سنجد أنفسنا في مواجهة جهل منظم يطل عبر الشاشات.
وللحديث بقية..



‫0 تعليق

اترك تعليقاً