روح التحدي.. من حافة الهاوية إلى مجتمع آمن

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!



في عام المجتمع 2025، الذي أعلنه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات – حفظه الله – تحت شعار «يدًا بيد»، تتقدم الدولة وتتضافر الجهود بخطى واثقة نحو ترسيخ مجتمع يحتضن الأسرة ويحميها، ويستمد تماسكه من إرثه العريق وقيمه الوطنية الأصيلة.

هو عام تُصاغ فيه المبادرات من روح الهوية، وتتوحد فيه الجهود لبناء وطن شامخ بأمنه وأمانه، مستكملًا مسيرته بثقة نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا لجميع أفراد المجتمع.

ومع حلول اليوم العالمي لمكافحة المخدرات، تتجدد أصوات التحذير، وتتعالى النداءات، لكن أجمل ما في هذا اليوم أنه بات في الإمارات مناسبةً للاحتفاء بالوعي لا بالخوف، وبالأمل لا باليأس.

في عاصمتنا الحبيبة، وتحديدًا في غاليريا مول – جزيرة المارية، شهدنا مبادرة وطنية رائدة بتنظيم وزارة الداخلية، وبرعاية الفريق الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية، تحت شعار «أسرة واعية، مجتمع آمن». كان الملتقى أكثر من مجرد فعالية، فقد كان صوتًا ناطقًا بوجع الناس وأملهم. جمع بين الأسر، والشباب، والجهات الأمنية، والأطباء، والمختصين، وشهد عروضًا وورشًا تفاعلية، وتجاربَ واقعية تحاكي تأثير الإدمان، وتقنياتٍ ذكية توظف الذكاء الاصطناعي في الكشف المبكر، وتقديم الدعم النفسي، وإيصال رسائل التوعية بلغة بسيطة تلامس قلوب ومسامع أفراد الأسرة، وخصوصًا أجيال المستقبل.

في مثل هذه الأجواء، تُروى القصص التي تغيّرنا من الداخل. ومنها قصة شابٍ لا نعرف اسمه الحقيقي، نسميه هنا “فلان”، لأنه يمكن أن يكون أي شابٍ نعرفه أو لا نعرفه. كان فلان طالبًا متفوقًا، متزنًا، محبوبًا بين أقرانه، يمضي بخطى ثابتة نحو المستقبل. لم يكن ينقصه شيء، لكن الحياة لا تسأل دومًا عن النقص، بل تُباغتك أحيانًا بما لا يخطر على بالك. جلس ذات مساء في مكان عادي، مع أشخاص عاديين، لكنّ أحدهم قدّم له شيئًا غير عادي، قرصًا صغيرًا، بكلمات ناعمة، ووهم كبير. قالوا له: “جرّب، لن يحصل شيء.” فجرّب، وليته لم يفعل، فقد بدأ كل شيء.

لم يكن الأمر دراميًا كما في الأفلام. لم تظهر عليه علامات غريبة، ولم يلحظ أهله شيئًا في البداية. فهذه المواد لا تطرق الباب بعنف، بل تتسلل بخفة، مثل الغبار، حتى تُغطي الروح وتثقل الجسد. بمرور الوقت، بدأ فلان يفقد حماسه، ثم ترك مشروع تخرّجه، ثم بدأ يتغيب عن البيت. لم يعرفوا ما به، لكنه كان يتلاشى أمام أعينهم. عامان من الضياع المقنّع. ينام حين يستيقظ العالم، ويستيقظ حين ينام الناس. يضحك وهو منطفئ، ويصمت حين يُسأل. حتى أتى اليوم الفارق؛ كان يسير بلا هدف تحت ضوء خافت، حين لمح لوحة كبيرة كُتب عليها: «أنت أهم مما تتعاطى – توقّف قبل أن تفقد نفسك». فأوقف سيارته، لا ليرى العبارة، بل لأنها أصابته في نقطة ما داخله لم يلامسها أحد منذ زمن. هناك، وقف وقرّر. عاد إلى بيته. لأول مرة منذ شهور، دخل لا ليخفي نفسه، بل ليواجه. جلس مع والده وأمه، وبدأ يروي قصته، بصوت مكسور، ودموع محبوسة، لكنه كان صادقًا للمرة الأولى. استمعا له حتى النهاية، دون صدمة، دون غضب. بكت أمه كما لم تبكِ من قبل، ليس لأنه أخطأ، بل لأنه عاد. أما والده، فقال له بيده المرتجفة على كتفه: “أنت ولدنا الحبيب، وسنُعيدك إلينا، خطوة بخطوة.”

منذ تلك الليلة، تغيّرت ملامح البيت. غرفته أصبحت بيئة شفاء، لا مكانًا للعزلة. أمه تكتب له كل صباح عبارة صغيرة وتعلقها على مرآته: “أنا فخورة بك لأنك تحاول.” والده صار يرافقه في مراكز العلاج، ويجلس إلى جانبه في جلسات الصمت الطويل، كأن حضوره وحده كافٍ ليقول: “لن تقع وحدك.” ثم بدأت الرحلة الحقيقية. نوبات صداع، قلق، أرق، رغبة في العودة، ثم ندم، ثم فراغ، ثم رغبة في الحياة. لم يكن العلاج مسارًا مستقيمًا، بل طريقًا وعِرًا مليئًا بالمطبات. لكنه لم يكن وحده فيه. كان معه أهله، مختصون، أصدقاء حقيقيون، ومجتمع يُريد له الحياة. وبعد أشهر طويلة من التدرّج والتحدي، بدأ فلان يستعيد نفسه. كتب قصته. تحدّث عنها في مدرسة قريبة، ثم في ندوة عامة، ثم في ورشة نظمتها إحدى المؤسسات الوطنية. لم يكن بليغًا في كلماته، لكنه كان صادقًا بما يكفي ليصمت الجميع حين يتحدث. اليوم، فلان لم يعد يخجل من ماضيه، بل يحوله إلى جسرٍ يعبر عليه الآخرون. يقول دائمًا: “لم أكن مجرمًا، كنتُ ضائعًا. ما أنقذني هو أن هناك من سمعني، واحتواني، ولم يحكم عليّ.”

إلى الشباب من الذكور والإناث: لا تضحّوا بأنفسكم من أجل لحظة عبث، أو رفيق طريق زائف. لا يوجد شيء يُنسيك الواقع أكثر من الحلم، ولا دواء ينقذك أكثر من الإرادة والوقاية. أنتم أثمن من أن تكونوا ضحايا لصمت المجتمع، أو فتور التوعية، أو جرأة مروجي السموم القاتلة.

وإلى الآباء والأمهات: كونوا لهم قبل أن يحتاجوا غيركم. ليس بالتجسس، بل بالتقارب. لا تنتظروا السقوط لتكونوا الوسادة، بل كونوا السياج قبل أن تهب العاصفة. أبناؤكم لا يحتاجون إلى محقق، بل إلى من يُمسك أيديهم قبل أن تفلت.

وإلى الجهات المختصة: شكرًا لكل جهد قدمتموه، لكل مبادرة، لكل ضابط ومختص ومركز تأهيل. نثمّن إدخال الذكاء الاصطناعي في التحليل والتوجيه والدعم، ونأمل أن تكون جهود الوقاية والتوعية مستمرة طوال العام، لا في الأيام العالمية فقط. فالمخدرات لا تختار توقيتًا لتُهاجم المجتمع الآمن، فلنواجهها بوعي لا ينام، ويقظة مستدامة لا تنتظر المناسبة.

وإلى كل من يقرأ مقالتي، أقول: فلان ليس شخصًا مجهولًا. بل هو كل من سقط وقرّر أن ينهض. هو رسالة تقول: حين تستيقظ روح التحدي.. تعود الحياة، والوقاية خير من العلاج.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة



‫0 تعليق

اترك تعليقاً