يظل للمعلقون الرياضيون مكانة الخاصة، فهم من يمنحون للعبة روحها ونكهة خاصة تخص لكل معلق، ويحوّلون اللحظة العابرة إلى ذكرى خالدة، ويبقى التعليق المصري مدرسة فريدة من نوعها منذ ستينيات القرن الماضي.
بدأ التعليق المصري من جيل القدامى العظماء محمد لطيف، علي زيور، حسين مدكور، إبراهيم الجويني، وعلاء الحامولي، الذين وضعوا حجر الأساس لفن التعليق الرياضي المصري، وأسسوا مدرسة تمزج بين الرقي والبساطة، مرورًا بجيل العمالقة الذين أضفوا على اللعبة بريقًا خاصًا، مثل حمادة إمام، ميمي الشربيني، ومدحت شلبي، وصولًا إلى جيل “التلامذة الأفذاذ”، الذين حملوا إرثا ثقيلا في التعليق المصري.
وبرزت أصوات حفرت أسماءها في ذاكرة المشاهد المصري والعربي، كل له بصمته وحكايته، وكان آخر هؤلاء، أشرف محمود، الذي تصدّر الترند مؤخرًا بعد تعليقه الشهير في كأس العالم للأندية، حين خاطب نجم الأهلي حسين الشحات بعبارته التي تحولت إلى ترند: “يا حسين تعبّنتي يا حسين.. قتلتني يا حسين”.
عبارة خرجت بتلقائية خالصة، فخاطبت وجدان الجماهير، وأعادت تسليط الضوء على واحد من الأصوات العريقة في التعليق المصري، الذي ظل وفيًا للغة، وللحياد، وللرسالة الإعلامية كما آمن بها.
وتستعرض “تليجراف مصر” أبرز المعلقين من جيل “التلامذة الأفذاذ” الذين تركوا بصمة لا تُنسى، وما زالوا يواصلون تقديم المتعة كالتالي:
صوت من الجنوب
من أعماق صعيد مصر، وتحديدًا من محافظة قنا، خرج أشرف محمود صاحب صوت نقي وقلم واع، ليقدم في عالم الإعلام الرياضي، كاتبًا ومعلقًا ومثقفًا، وفي العمل الإنساني أيضا.
لم يتعامل مع الميكروفون كأداة للوصف فقط، بل كمنصة للاعتزاز بالهوية واللغة العربية.
انطلق في منتصف التسعينييات عبر شاشة التليفزيون المصري، واعتقده كثيرون أنه معلقًا من الخليج بسبب نبرة صوته، لكنه كان مصريًا صعيديًا أصيلًا، يوازن بين الفصحى والدارجة الراقية، ليقول عنه الشاعر فاروق شوشة “أنت تُغرد بمفردات اللغة”.
ويقول أشرف محمود: “نصحني الشاعر فاروق شوشة بالتمسك بالعربية، لكن لا تكن كلغة سيبويه، وازن بين الفصحى والعامية، ارتقِ بالعامية لتكون اللغة الصحيحة لا الفصيحة”، وأضاف: “المتلقي لا يريد أن يسمع العبارات المعقدة، بل يريد لغة تدخل إلى أذنه بسهولة، وتصل إلى قلبه بسلاسة”.
بدأ مشواره الصحفي في مؤسسة “الأهرام”، وتدرج حتى أصبح رئيس تحرير مجلة “الأهرام العربي” عام 2012، وراسل خلال مسيرته منصات دولية كـ”مونت كارلو” و”فرانس برس”.

كما قدم مؤلفات رائعة مثل فن التعليق الرياضي، ما الدنيا إلا ملعب كبير، والرياضة في ملعب الأدب.
أثبت حضوره كمعلق في مباريات الدوري المصري والبطولات القارية، وأبدع في مباريات القمة بين الأهلي والزمالك ومنتخب مصر.
تعليقه الشهير في كأس العالم للأندية على فرصة حسين الشحات، “يا حسين تعبّنتي يا حسين، قتلتني يا حسين”، أعاد تسليط الضوء عليه كأحد الأصوات المحبوبة والعريقة في التعليق المصري.
أشرف محمود أيضًا شخصية إنسانية، شارك في مبادرات عديدة لإنقاذ متضرري السيول في قنا، وكون صداقات قوية خارج الوسط الرياضي أبرزها سامح الصريطي، ليلتقيا في العديد من الأعمال الخيرية عدة داخل وخارج مصر.
“يا خبر أبيض”
صوت من الجيل القديم، لا ينسى في ذاكرة التعليق المصري، فمن ملاعب الكرة إلى مقاعد التعليق، ومن هداف “الشواكيش” إلى صوت محفور في القلوب.
مصطفى الكيلاني الذي ولد في سبتمبر عام 1950، وتخرج في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1972.
وبدأت رحلته مع كرة القدم في أواخر الستينيات ضمن صفوف نادي ألماظة، قبل أن ينضم إلى فريق الأمل بالنادي الأهلي تحت قيادة الراحل محمود الجوهري، الذي كان يتولى اكتشاف المواهب الصغيرة وتطويرها.

تدرج الكيلاني في فرق الناشئين والشباب داخل القلعة الحمراء، لكن خلافًا فنيًا مع مدرب فريق الشباب، فؤاد شعبان، عجّل برحيله عن المارد الأحمر، بعدما أصر على اللعب كمهاجم صريح، في حين كان مدربه يطالبه باللعب في مركز الظهير الأيسر.
في منتصف السبعينيات، انتقل إلى نادي الترسانة، حيث تألق بقميص “الشواكيش” وأصبح أحد أبرز هدافي الفريق حتى أنهى مسيرته الكروية عام 1983.
وبعد الاعتزال، اتجه إلى مجال التعليق الرياضي، حيث بدأ مشواره الإعلامي عام 1985 من خلال إذاعة الشباب والرياضة والتليفزيون المصري، وأصبح خلال العقود التالية من الأصوات المحببة لدى جماهير الكرة المصرية.
اشتهر بعبارته الشهيرة “يا خبر أبيض” التي ارتبطت بتعليقه على الهجمات الخطيرة، وظلت بصمة مميزة في ذاكرة عشاق المستديرة.
“هوبا بقى هوبا”
من قلب محافظة الغربية، خرج صوت مميز بصبغة مثقفة ولهجة محببة، ليسطع نجمه في سماء التعليق الرياضي خلال التسعينيات.
أشرف شاكر، أحد أبرز المعلقين المصريين في التسعينيات وبداية القرن الجديد، ويعد شقيق أحمد شاكر، عضو اتحاد الكرة الأسبق وأمين صندوق الاتحاد في عهد الراحل سمير زاهر.
عرفه الجمهور المصري والعربي في كأس العالم 1994 بالولايات المتحدة الأمريكية، حين تولى مهمة التعليق على مباريات البطولة، مقدّمًا نموذجًا مختلفًا للمعلق الرياضي، يمزج بين الفهم الفني العميق للعبة والأسلوب اللغوي الراقي، باستخدام “لزمات” لا تنسى من ذاكرة المشاهدين.

“هوبا بقي هوبا، نموذج للاعب الكبير يا جماعة نموذج، هيلعبها في المنطقة العامية بقي يالا، الكونترا أتاك بتاعه عالي.. والبوزيشن حلو، خطير جدًا الراجل ده يا جماعة” وغيرها من اللزمات التي علقت في أذهان جماهير الكرة المصرية والعربية
عقب تألقه اللافت في المونديال، سارعت شبكة راديو وتلفزيون العرب ART إلى ضمه إلى طاقم معلقيها، ليبدأ فصلًا جديدًا من مسيرته معلقا على أكبر الدوريات الأوروبية والعالمية.
وظل أشرف شاكر صوتًا رائعا ليستمر في الشبطة قرابة 20 عامًا، شارك خلالها في نقل مباريات أهم البطولات العالمية.
زمالكاوي الهوية
صوت آخر من مدرسة جيل العمالقة هو علي محمد علي الذي ولد في محافظة سوهاج يوم 23 أبريل 1965.
أحب علي محمد علي كرة القدم وعشقها منذ الطفولة، لكنه تعرض لإصابة خطيرة في الركبة لتنهي مسيرة احترافية لم تبدأ، كما لعب سباحة وكرة سلة في نادي الزمالك.
بعد انتهاء حلم كرة القدم، التحق بكلية الإعلام، وهناك صقل أدواته اللغوية والمهنية، وبعد تخرجه انضم إلى التليفزيون المصري عام 1998، كأحد أفضل المواهب في التعليق المصري.
في بداياته، علق على نهائي كأس العالم 1998 في فرنسا، كما تولى التعليق على نهائي يورو 2000، ونهائي كوبا أمريكا، ليثبت أنه أحد أفضل المعلقين المصريين.

كما عمل أيضًا في إذاعة الشباب والرياضة، وعرفه المستمعون بنبرته الواضحة وتحليله المتوازن.
مع انطلاق عصر الفضائيات، انتقل علي محمد علي إلى قناة الجزيرة الرياضية، وعلق العديد من البطولات العالمية والعربية، كما اشتهر بانتمائه وحبه لنادي الزمالك، وتشجيعه لفريق فالنسيا الإسباني في أوروبا.
وتحدث علي محمد علي في لقاء صحفي سابق عن مهنة التعليق العنصر الأساسي لديه هو المتابعة المستمرة، يجب أن تكون عينه معتادة على تحركات اللاعبين، ويتابع مباريات كثيرة جدًا، ودائمًا معه ورقة وقلم.
ضابط الشرطة
عمل المعلق الرياض حاتم بطيشة، ضابط شرطة قبل أن يقرر إجراء تغيير جذري في حياته المهنية عام 1998، تحديدًا مع انطلاق قنوات النيل المتخصصة بعد إطلاق القمر الصناعي المصري “نايل سات”.
وقتها، بدأت قناة النيل للرياضة عملية تجديد دماء بالتعليق الرياضي في مصر، فتم إعلان مسابقة لاختيار جيل جديد من المعلقين الشباب، وتقدم لها آلاف الشباب.
نجح منهم تسعة فقط، وكان من ضمن لجنة التحكيم قامات إعلامية ورياضية كبيرة، من بينهم الراحل ميمي الشربيني والإذاعي الكبير فهمي عمر.
حاول بطيشة، التوفيق بين عمله في الشرطة والتعليق الرياضي لمدة عامين، لكن الضغط كان كبيرًا، لذلك قرر التفرغ للتعليق، وكانت أول مباراة علّق عليها بين الأهلي والمقاولون، في ختام موسم 97-98.

أما أول اختبار حقيقي فكان كأس العالم 1998، وهنا بدأت رحلته الحقيقية خلف الميكروفون.
يقول بطيشة: “أنا لست من أنصار الجمل المحفوظة أو الشعارات المرتبطة بالمعلقين، أحب التلقائية والتفاعل مع اللحظة، الجمل التلقائية هي الأصدق، أما ما يُحفظ مسبقًا فلا يصل للجمهور بنفس الصدق”.
لكنه لا ينكر أن لديه طقوسًا قبل المباريات: “قبل المباراة لا آكل سوى وجبة خفيفة جدًا، بعد المباراة أعوض، لكن قبلها لا أتناول شيئًا تقيلًا، على عكس بعض الزملاء الذين يفضلون الأكل قبل الماتش مثل مدحت شلبي”.
علق بطيشة، على مباراة القمة في أبريل 1999، عندما تم طرد أيمن عبد العزيز بعد 4 دقائق فقط، وتسبب ذلك في انسحاب الزمالك من اللقاء، ليتم إيقاف اللعب حوالي 20 دقيقة، حينها بدأ يسترجع تاريخ الطرد في مباريات القمة والحكام الأجانب، ليؤكد أهمية التحضير المسبق للمباريات الكبيرة.
يعتبر بطيشة أجمل لحظة في مشوار التعليقي كانت مع هدف عمرو زكي في مرمى السنغال عام 2006 بعد نزوله مباشرة بدلًا من ميدو، وسط كل دراما التبديل والمشكلة الشهيرة مع حسن شحاتة.
علّق بطيشة على هدف زلاتان إبراهيموفيتش في مرمى إنجلترا، ليقول يومها: (يا حبيبي يا حبيبي يا حبيبي)، والغريب أن زلاتان علّق لاحقًا أنه أحب التعليق العربي وقال إنه الوحيد الذي أمتعني.