وسط صمت الصحراء وبين كثبان الرمال التي تخبئ في طياتها أسرار ملايين السنين يتمدد وادي الحيتان كأنّه كتاب مفتوح يحكي فصولًا مذهلة من تاريخ الحياة على كوكب الأرض.
يقع الوادي داخل محمية وادي الريان بمحافظة الفيوم على بُعد نحو 150 كيلومترًا من القاهرة وقد اكتشفت أول حفرياته عام 1903، لتُصنف هذه البقعة الفريدة ضمن مواقع التراث الطبيعي العالمي لما تحتويه من كنوز علمية نادرة تسجل لحظة مفصلية في رحلة تطور الحيتان من اليابسة إلى البحر.


حيتان تمشي على الأرض
في مشهد لا يتكرر في أي مكان آخر بالعالم يضم وادي الحيتان أكثر من 400 هيكل عظمي لحيتان تعود إلى نحو 40 مليون عام محفوظة في مواقعها الأصلية وكأنها ماتت بالأمس.
ويقول الدكتور محمد سامح خبير البيئة والمشرف السابق على الموقع: “هنا تتجسد لحظة التحول الكبير، هذه الحيتان كانت تملك أقدامًا خلفية وأسنانًا حادة كانت تصطاد على اليابسة والماء وشهدت آخر محاولاتها للتكيف قبل أن تعود كليًا إلى البحر”.

يُشير سامح إلى أن هذا الوادي كان جزءًا من بحر “تيثس” القديم الذي غمر شمال أفريقيا، ومكّن التنوع الدقيق في توزيع الهياكل العلماء من رسم سيناريو ملهم لمسار تطور الحيتان ما يجمع بين التاريخ والبيولوجيا والجيولوجيا في آن واحد.

أين يقع وادي الحيتان؟
من الصعب تخيّل أنّ هذه الصحراء كانت قاع محيط ضخم قديمًا وتلك الجبال والتلال المرتفعة في السماء كانت ملجأ الكائنات البحرية قبل ملايين السنين وهذا المكان الذي كانت تغوص فيه آلاف الكائنات البحرية أصبح مقصدًا للآلاف لمشاهدة النجوم وذراع المجرة وآلاف الشهب الكثير من المميزات الفريدة جعلت اليونسكو تدرجه على قائمة المحميات الطبيعية والتراث العالمي عام 2005.
وادي الحيتان كتاب مفتوح يروي تاريخ الأرض الجيولوجي
ويعتبر وادي الحيتان كتابًا مفتوحًا يروي تاريخ الأرض الجيولوجي حتى اختارته اليونسكو على قائمة مناطق التراث العالمي لاحتضانه عشرات الحفريات لأنوع منقرضة من الحيتان.
وساعدت تلك الحيتان العلماء على معرفة مختلف مراحل تطور هذا الحيتان التي تحوّلت من كائنات برمائية إلى كائنات بحرية خصوصًا بعدما اكتشف فريق بحثي من جامعة المنصورة الأرجل الخلفية لحوت طوله 18 مترًا والذي عاش في وادي الحيتان قبل 43 مليون سنة.

ما هو البحر الذي كان في وادي الحيتان؟
وكان وادي الحيتان بمحافظة الفيوم قاع محيط ضخم يسمى تيثي والذي انحسر بفعل التغيرات المناخية على مر العصور، تاركًا الكثير من الكائنات البحرية وراءه والتي تحجرت حول الصخور والتي أرجعها العلماء إلى عصر الأيوسين أي ما بين 40 وحتى 45 مليون سنة.
وبحسب الموقع الرسمي لليونسكو فإنّ وادي الحيتان الذي يقع في صحراء مصر الغربية وتحديدًا بمحافظة الفيوم يتضمن بقايا أحفورية متحجرة لفصائل الحيتان القديمة والمنقرضة والتي تمثل إحدى أهم محطات تطور الحيتان من ثدييات بريّة إلى كائنات بحرية إذ يعد وادي الحيتان أكبر موقع في العالم شاهدًا على مرحلة التطور هذه.
ويعكس وادي الحيتان طبيعة الحيتان وطريقة حياتها خلال فترة التحول وذلك بأنواع وأعداد وتركيزات فريدة من نوعها بينها عدد من الحيتان الشابة في مراحلها الأخيرة لفقدان أطرافها الخلفية كما أنّ الموقع يتيح متحجرات للكثير من الأنواع الأخرى في هذا الموقع لتكشف محيط البيئة والشروط البيئية خلال تلك الحقبة.

هل وادي الريان هو وادي الحيتان؟
وأوضح محمود كامل الباحث الأثري بهيئة تنشيط السياحة في تصريحات لـ«تليجراف مصر» أنّ وادي الريان ليس هو وادي الحيتان بل إنّ محمية وادي الحيتان هي جزء من محمية وادي الريان وهي أفضل مكان في العالم لمشاهدة ودراسة حفريات الحيتان المنقرضة.
كما أضاف “كامل” أنّ وادي الحيتان يقع داخل محمية وادي الريان بمحافظة الفيوم على بعد 150 كيلو مترًا من القاهرة وتم اكتشاف أول حفريات به عام 1903 ويحتضن متحف مفتوح ومتحف للحفريات والتغير المناخي
ماذا يوجد في وادي الحيتان؟
ووفقًا للموقع الرسمي للهيئة العامة للاستعلامات فإنّ وادي الحيتان عبارة عن متحف مفتوح يتميز بنظام بيئي فريد من نوعه، حيث يضم نحو 406 هياكل للحيتان منها 205 هياكل عظمية كاملة، بالإضافة إلى حفريات وهياكل الكثير من الكائنات البحرية مثل القروش والأسماك العظمية والدرافيل وعروس البحر وقروش الملائكة.
كما أنّه بيئة طبيعية لعددٍ من الحيوانات المهددة بالانقراض مثل الغزال الأبيض وثعلب الفنك الغزال المصري وثعلب الرمل والذئاب وعدد من الطيور المهاجرة النادرة مثل صقر شاهين والصقر الحر وصقر الغزال والعقاب النساري والكوبرا المصرية وغيرها من الأنواع.

وجهة علمية وسياحية فريدة
أما عن الجانب الثقافي والعلمي فقد أوضحت الدكتورة منى الخشاب، باحثة التراث الطبيعي بوزارة البيئة، أن
“وادي الحيتان هو أول موقع مصري يُدرج ضمن قائمة التراث الطبيعي العالمي منذ عام 2005”، وقد أُنشئ في الموقع متحف مفتوح يعرض الهياكل الأصلية وسط الطبيعة إلى جانب متحف متخصص في الحفريات والتغير المناخي صُمّم بحيث يكون متوافقًا مع الطابع الصحراوي للمكان ومع الحفاظ على البيئة.
ويُعتبر وادي الحيتان اليوم محطة لا غنى عنها للعلماء والطلاب والسياح من داخل وخارج مصر، يؤكد الدكتور إيهاب عبد الحميد أستاذ الجيولوجيا بجامعة الفيوم، أن الوادي ليس مجرد موقع حفري بل فصل حي من كتاب التطور، حيث يعكس التغيرات المناخية والجيولوجية التي شكّلت كوكب الأرض مانحًا الزائرين فرصة لاستكشاف أسرار الماضي عبر جولة بين العظام والصخور القديمة.
